الإسلام والعدالة
د. مصطفى الرافعي
الباحثون في القانون عرفوا العدالة بأنها: ((القواعد القائمة إلى جانب قواعد القانون الأصلي مؤسسة على وحي العقل والنظر السليم وروح العدل الطبيعي بين الناس)).
والشرائع القديمة استقت مبادئ العدالة من هذا المصدر الذي هو العقل وشعور العدل في النفس. ولكن هذا المصدر اتخذ صوراً مختلفة تبعاً لاختلاف الشعوب، فكان مصدر العدالة عند الرومان (قانون الشعوب)، وعند اليونان (قانون الطبيعة)، وعند الإنكليز (ضمير الملك). أما مصدر العدالة في شريعة القرآن هو العقل وحكمة الاشتراع في الاسلام.
والعدل يعني تمكين صاحب الحق من الوصول إلى حقه من أقرب الطرق وأيسرها.
والعدل أو العدالة هي واحدة من القيم التي تنبثق من عقيدة الاسلام في مجتمعه. فلجميع الناس في مجتمع الاسلام حق العدالة وحق الاطمئنان إليها، عملاً بقول الله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
واسم العدل الوسط مشتق من المعادلة بين شيئين بحيث يقتضي شيئاً ثالثاً وسطاً بين طرفين. لذلك كان اسم الوسط يستعمل في كلام العرب مرادفاً لمعنى العدل. فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) في تفسيره لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)، قال: (عدلاً، والوسط هو العدل).
والعدل في الاسلام لا يتأثر بحبّ أو بغض، فلا يفرق بين مسلم وغير مسلم، كما لا يفرق بين حَسَب ونَسَب، ولا بين جاه ومال.. بل يتمتع به جميع المقيمين على أرضه من المسلمين وغير المسلمين مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودة أو شنآن، بقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون).
فالعدل في الاسلام ميزان الله على الأرض، به يؤخذ للضعيف حقه وينصف المظلوم ممن ظلمه، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)). وأبواب السماء مفتوحة أمام الإمام العادل وأمام المظلوم على سواء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم)). فالله سبحانه يجيب دعوته، وينصف من يستغيث به، ويدفع عنه مظلمته. بل أباح للمظلوم فوق ذلك الدعاء على الظالم والتشهير به وقول السوء في حقه حتى يرجع عن ظلمه، مصداقاً لقول الله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم).
لقد دعا الاسلام إلى عدالة اجتماعية شاملة ترسيخاً لفكرة العدل كمبدأ، وتنمية لها كسلوك لأن العدل هو أهم الدعائم التي يقوم عليها كل مجتمع صالح. فالمجتمع الذي لا يقوم على أساس متين من العدل والإنصاف هو مجتمع فاسد مصيره إلى الانحلال والزوال.
وعدالة الاسلام ذات سمة خاصة تميزها عن سائر العدالات. فمجتمع الاسلام يقوم على توحيد الإله وتوحيد الأديان جميعاً في دين الله الواحد، وتوحيد الرسل في الدعوة بهذا الدين الموحد منذ نشأة الحياة: (إن الدين عند الله الاسلام) و (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
ومجتمع الاسلام يقوم على الوحدة بين العبادة والمعاملة والعقيدة والسلوك والروحيات والماديات والقيم الاقتصادية والقيم المعنوية والدنيا والآخرة.
وعلى هذا، فإن عدالة الاسلام تتناول جميع مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها، وتسعى إلى تحقيق العدالة فيها بوسائل شتى:
ـ أولاً: إعلان الأخوة بين أبناء المجتمع الاسلامي، يقول الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)، ويقول محمد (ص): ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
ـ ثانياً: تشديد النكير على كل عمل يوهن الأخوة الاسلامية، ومن أجل ذلك حرّم التعالي والسخرية، بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن).
وحرّم التعريض بالعيوب والتفاخر بالأنساب: (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب).
وحرّم الغيبة والنميمة وسوء الظن: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه).
ـ ثالثاً: الترغيب في كل ما يجمع القلوب ويدعم الوحدة وذلك كالدعوة إلى الإصلاح بقوله (ص): ((ألا أدلك على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ إصلاح ذات البين)).
وكحسن الجوار، بقوله: أتدري ما حق الجار عليك؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابته سراء هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزّيته، وإذا مات اتّبعت جنازته. ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب الريح عنه إلا بإذنه ولا تؤذه بقتاد ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له وإلا فأدخلها إلى بيتك سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)).
وكذلك أغرى الاسلام بالمساعدات والخدمات الاجتماعية فاعتبر مساعدة الضعيف صدقة، وإزاحة الأذى عن الطريق صدقة، وحثّ على التعاون ابتغاء خير الجماعة، فقال تعالى: (وتعاونوا على البرّ والتقوى).
وقال (ع): ((مَن أدخل السرور على أهل بيت من المسلمين لم يَرَ الله له جزاء دون الجنة)). كما قال: ((لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهراً)).
إن كل ما يشيع اليوم بين الناس من كثرة المقاضاة بشأن الديون والحقوق واتساع رقعة الخصومات بشأن الاختلاف بين الناس على الأموال ونحوها مما يوهن من رابطة الأخوة بين المسلمين فيما بينهم وبين غيرهم من بني الانسان لم تكن لتحدث في صورتها الجامحة البشعة إلا نتيجة طغيان غرائز الانسان من الطمع والجشع وحب الاستئثار الذي يجردهم من آدميتهم وإنسانيتهم وعقيدتهم وضمائرهم، وقد جاء الاسلام علاجاً له ودعا إلى نبذه بالحديث النبوي الشريف: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))، قالوا: يا رسول الله! ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ فقال (ع): ((تأخذون فوق يديه وتردعونه عن ظلمه)).
فالظلم ضدّ العدل. والعدل الاسلامي مبدأ مقرر في كل شيء ليس فقط في الأخوة ـ حسبما بيّنا من قريب ـ حتى لا يوهنها الظلم، بل وفي القول وفي العمل وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي النساء وفي الأقارب والأولاد والضعفاء حتى في الجوارح فضلاً عن العدل في الاقتصاد وفي الشهادة وفي الحكم الذي هو فرع من فروع المسؤولية، وهذه ينبغي أن تقوم على أساس العدل المطلق. وهذا يتحقق بمعرفة كل مسؤول ما له وما عليه. وأمثلة ذلك:
1 ـ في القول: (وإذا قلتم فاعدلوا).
2 ـ في العمل: يقول (ص) مخاطباً أهله: ((التمسوا لكم عملاً ينجيكم من الله، فوالله لا أغني عنكم من الله شيئاً)).
3 ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). وتبعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تُلقى على عاتق الفرد وحده، بل تُلقى على عاتق الجماعة كلها. فإذا أهملت ذلك تعرضت للكوارث والويلات. يقول الله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). كما يقول سبحانه: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا تناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
4 ـ في النساء: فالاسلام لا يعترف بالتفرقة الجائرة بين الرجل والمرأة في معنى الانسانية المشترك وفي حق كل منهما، بأن يتمتع بمقتضيات حياته النوعية وخصائصه الطبيعية في إطار الحق والعدل. يقول الله تعالى: (ومَن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً).
5 ـ في الأقارب وذوي الأرحام: يقول الله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام). بمعنى: صلوها واعدلوا فيها ولا تغطوها أو تنسوا حقوقها عليكم فتظلموها.
6 ـ في الاقتصاد: إن كل عدل لا يقوم على اقتصاد منظم.. فهو عدل ناقص بل عدل ظالم ـ إن صحّ التعبير ـ فلن نكون عمليين حين نقول للجائع أو العاري أو المفلس أو العاطل عن العمل، لا ترتكب الجريمة قبل أن نحقق له مجتمعاً صالحاً لا يجوع فيه ولا يعرى ولا يتعطل عن العمل.
هذا وقد تشدد الاسلام في نظرته إلى العدالة من زاويتها الاقتصادية فحرّم ما نسميه نحن اليوم بلغتنا السياسية (الاستفادة غير المشروعة) عن طريق استخدام النفوذ والسلطان. ومن الأمثلة على ذلك سلوك عمر بن الخطاب مع ولده عبدالله حين رأى في طريقه إبلاً سمينة وسأل عمر عنها فقيل له إنها إبل عبدالله بن عمر، فغضب ابن الخطاب وقال: ((ما سمنت إبل عبدالله إلا لأنه أرعاها بجاه أمير المؤمنين، ادفعوا بها إلى بيت المال)) وأمر بمصادرتها.
ومن أمثلة العدل الاقتصادي في الاسلام: ضريبة العشور التي عرفتها معظم الشعوب القديمة كالفراعنة والفرس واليونان والرومان، وهي تشبه ضريبة الجمركية في أيامنا. فكانت تلك الشعوب قبل الاسلام ـ وبخاصة الرومان ـ يجبونها على حدود المناطق المتعددة من الدول الواحدة وكانوا يتقاضونها في العام الواحد مرات عديدة بعدد مرورهم على العاشر (أو الجمركي إذا جاز التعبير)، كما كانوا يتقاضونها على جميع سلع التجارة مهما بلغ ثمنها قليلاً أو كثيراً إلى ما هنالك من صعوبات ترهق كاهل المستورد أو التاجر المتجول على حين إذا ا قارنا نظام الضريبة هذه بنظامها في الاسلام نجد أن الاسلام امتاز فيها عن جميع الشعوب التي سبقته بأنه جمع العدل والرحمة والسماحة والحكمة في فرض تلك الضريبة وفي تقديرها وفي تقاضيها.
أ ـ لم يفرض الاسلام ضريبة العشور ما لم تبلغ قيمة البضاعة نصاب الزكاة الذي هو عشرون مثقالاً من الذهب أو مئتا درهم من الفضة.
ب ـ لا تستوفى في الاسلام ضريبة العشور إلا مرة واحدة في العام مهما تعددت رحلات التاجر عبر دياره.
ج ـ لا تدفع في أرجاء الدولة الاسلامية إلا مرة واحدة مهما تعدد العشار أو (الجمارك).
د ـ لا يتعرض التاجر حال مروره على العاشر للإساءة إليه بتفتيشه، بل يكتفي العاشر بإقراره، لأن عمر بن الخطاب أمر بعدم تفتيش التجار.
هـ ـ لم تكن الأعشار في بداية فرضها تؤخذ من المسلم إذا أدّى زكاته ومن الذميّ إذا أدّى جزيته، إنما كانت تضرب على المحاربين إذا استأذنوا كي يتجروا في أرض المسلمين طبقاً لقاعدة المعاملة بالمثل، لأن ضريبة العشور هذه لم يعرفها الاسلام إلى على عهد عمر بن الخطاب حين كتب إليه أبو موسى الأشعري يستشيره في تجار من المسلمين يدخلون ديار الحرب فيأخذ منهم حكامهم العشور، فكتب إليه عمر بأن يأخذ من المحاربين على تجارتهم إذا دخلوا ديار الاسلام القدر الذي يأخذه هؤلاء من المسلمين وهذا مبدأ المعاملة بالمثل المطبق اليوم عند كافة الدول الراقية.
7 ـ العدل في القصاص والحدود: وكذلك تناولت عدالة الاسلام الحدود، إذ جعلتها متفاوتة لكي يتناسب الحدّ مع الجرم. فجعل الاسلام عقوبة الزنى الرجم للمحصن والجَلد فقط لغير المحصن، تبعاً للفرق بين المتزوج والعازب، فقال (ص): ((البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم)).
8 ـ العدل في الشهادة: والشهادة في الاسلام حق واجب الأداء.. فكل مسلم أو مسلمة مطالب بأداء الشهادة وعدم كتمها، لقول الله تعالى: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون).
9 ـ العدل في الحكم: فقد أمر الله رسوله أن يحكم بالعدل، في قوله سبحانه: (وإذا حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين). كما أمر الله تعالى مَن يأتي من بعد رسول الله من الحكام المسلمين أن يحكموا بالعدل بقوله سبحانه: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
والحكم بالعدل يعني الحكم بما أنزل الله، والحكم بما أنزل الله يعني الحكم بما ورد في كتاب الله وما صح صدوره عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير. هذه الأمور الثلاثة التي تسمى سنّة، والقرآن والسنّة هما المصدران الأساسيان للتشريع في الاسلام. وتفرع عن هذين المصدرين مصدران آخران للتشريع في مذاهب أهل السنة، هما: الإجماع والقياس. فالإجماع هو ما أجمعت عليه الأمة من الأحكام للحديث النبوي الشريف: ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن))، ولحديث آخر: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)). والقياس هو (إلحاق أمر بأمر لعلة مشتركة بينهما). وقد أقرّ رسول الله القياس وامتدحه إذا صدر من أهله حين لا يجد للحادثة حكماً منصوصاً عليه في كتاب الله أو في سنة نبيه، وذلك في قوله لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: ((كيف تصنع إن عرض لك قضاء))؟ قال: أقضي بما في كتاب الله تعالى، قال: ((فإن لم يكن في كتاب الله))؟ قال: فبسنّة رسول الله (ص)، قال: ((فإن لم يكن في سنة رسول الله))؟ قال: ((اجتهد رأيي ولا آلو)) (لا أقصر عن جهد). فضرب رسول الله (ص) بيده صدر معاذ ثم قال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)).
أما الشيعة الإمامية فإن مصادر التشريع عندهم ثلاثة لا غير، هي: الكتاب والسنّة والعقل.
هذا، ولما كان رسول الله (ص) القاضي الأول في الاسلام ـ كما ذكرنا ـ فقد شرّع في القضاء مبادئ وأصولاً ومناهج لإقامة العدل ما زالت حتى يومنا الحاضر تعتبر دستوراً لجميع قضاة الأرض، وستظل عَلَماً ونوراً يهتدون به ويسيرون في ضوئه في كل مكان وعلى كل الأزمان.
من هذه المبادئ والأصول:
أ ـ أنه، عليه الصلاة والسلام، أوجب على كل قاض أن لا يقضي في الحادثة حتى يسمع كلام الخصوم سماع فهم وتدبر، لقوله (ص) للإمام علي، كرم الله وجهه: ((إذا تقاضى إليك رجلاً فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)).
ب أوجب رسول الله على القاضي حين يقضي أن يكون حاضر الذهن هادئ البال، غير منفعل ولا غضبان، حتى يأمن الخطأ في قضائه، فقال (ص): لا يقضين حاكم بين إثنين وهو غضبان)).
ج ـ شرع رسول الله مبدأ البينة على إقامة الحق والعدل، فقال: ((البيّنة على المدعي واليمين على مَن أنكر)).
وأخيراً، رب متسائل يتساءل: هل الحكم بالعدل وترك الظلم والجور يشمل جميع الناس من المؤمنين بالله وغير المؤمنين؟ وأن غير المؤمنين إذا حكموا بالعدل في الدنيا، فهل ينالون ثواب عدلهم في الآخرة، فلدفع هذا التساؤل نقول: ((إن الجزاء جزاءان، جزاء دنيوي، وجزاء أخروي)).
فبالنسبة للأول إن قوانين الحياة وسُنن الطبيعة لا تفرق بين مؤمن وكافر، مصداقاً لقوله سبحانه: (إن الله لا يظلم الناس شيئاً)، ولفظ (الناس): يعمّ المؤمن والكافر، بحيث ينال كل منهما ثواب عدله واستقامته في هذه الحياة الدنيا، لأن الدنيا يعطيها الله للمؤمن والكافر، لمني حب ولمن لا يحب. أما الآخرة فإنه لا يعطيها إلا مَن يحب.
أما جزاء العدل في الآخرة فجائز أن يخفف الله به العذاب عن الكافرين في الدارة الآخرة إذا أحسنوا أعمالهم واستقاموا في الحياة الدنيا. ولكن الثواب على العدل في الآخرة فهو مختص بالمؤمنين فقط، لأن من مستلزمات الثواب يوم القيامة أن يكون الانسان مؤمناً يجمع أركان الإيمان وفي طليعتها الإيمان بالله تعالى وأنه واحد لا شريك له. والذي لا يؤمن هذا الإيمان ولكنه يعدل في الدنيا ويسير على سنن الصلاح والإصلاح فإنه يعمل ما يعمل قاصداً الدنيا وحدها لعدم إيمانه بالآخرة. وهذا منتهى العدل الرباني، حيث يقول سبحانه: (مَن كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومَن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)، وحيث يقول الحديث الشريف: ((إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجازي بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً)).
فمن عدل الله تعالى أن يعطي كل إنسان ما يطلب لا أكثر، وإنما كثيراً ما يوفق الله فاعل الخير والبر والعدل من غير المؤمنين إلى الإيمان لما ورد: ((إن أعمال الخير تختم لصاحبها بخاتمة الخير)).
وهذا يستفاد من قول الله تعالى: (قل مَن كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً)، وبالمقابل قوله: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم).
إن الناس أمام عدل الله سواء، مصداقاً لما قاله الله: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومَن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، ووفاقاً لما أعلنه رسول الله: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يداها)).
د. مصطفى الرافعي
الباحثون في القانون عرفوا العدالة بأنها: ((القواعد القائمة إلى جانب قواعد القانون الأصلي مؤسسة على وحي العقل والنظر السليم وروح العدل الطبيعي بين الناس)).
والشرائع القديمة استقت مبادئ العدالة من هذا المصدر الذي هو العقل وشعور العدل في النفس. ولكن هذا المصدر اتخذ صوراً مختلفة تبعاً لاختلاف الشعوب، فكان مصدر العدالة عند الرومان (قانون الشعوب)، وعند اليونان (قانون الطبيعة)، وعند الإنكليز (ضمير الملك). أما مصدر العدالة في شريعة القرآن هو العقل وحكمة الاشتراع في الاسلام.
والعدل يعني تمكين صاحب الحق من الوصول إلى حقه من أقرب الطرق وأيسرها.
والعدل أو العدالة هي واحدة من القيم التي تنبثق من عقيدة الاسلام في مجتمعه. فلجميع الناس في مجتمع الاسلام حق العدالة وحق الاطمئنان إليها، عملاً بقول الله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
واسم العدل الوسط مشتق من المعادلة بين شيئين بحيث يقتضي شيئاً ثالثاً وسطاً بين طرفين. لذلك كان اسم الوسط يستعمل في كلام العرب مرادفاً لمعنى العدل. فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) في تفسيره لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)، قال: (عدلاً، والوسط هو العدل).
والعدل في الاسلام لا يتأثر بحبّ أو بغض، فلا يفرق بين مسلم وغير مسلم، كما لا يفرق بين حَسَب ونَسَب، ولا بين جاه ومال.. بل يتمتع به جميع المقيمين على أرضه من المسلمين وغير المسلمين مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودة أو شنآن، بقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون).
فالعدل في الاسلام ميزان الله على الأرض، به يؤخذ للضعيف حقه وينصف المظلوم ممن ظلمه، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)). وأبواب السماء مفتوحة أمام الإمام العادل وأمام المظلوم على سواء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم)). فالله سبحانه يجيب دعوته، وينصف من يستغيث به، ويدفع عنه مظلمته. بل أباح للمظلوم فوق ذلك الدعاء على الظالم والتشهير به وقول السوء في حقه حتى يرجع عن ظلمه، مصداقاً لقول الله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم).
لقد دعا الاسلام إلى عدالة اجتماعية شاملة ترسيخاً لفكرة العدل كمبدأ، وتنمية لها كسلوك لأن العدل هو أهم الدعائم التي يقوم عليها كل مجتمع صالح. فالمجتمع الذي لا يقوم على أساس متين من العدل والإنصاف هو مجتمع فاسد مصيره إلى الانحلال والزوال.
وعدالة الاسلام ذات سمة خاصة تميزها عن سائر العدالات. فمجتمع الاسلام يقوم على توحيد الإله وتوحيد الأديان جميعاً في دين الله الواحد، وتوحيد الرسل في الدعوة بهذا الدين الموحد منذ نشأة الحياة: (إن الدين عند الله الاسلام) و (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
ومجتمع الاسلام يقوم على الوحدة بين العبادة والمعاملة والعقيدة والسلوك والروحيات والماديات والقيم الاقتصادية والقيم المعنوية والدنيا والآخرة.
وعلى هذا، فإن عدالة الاسلام تتناول جميع مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها، وتسعى إلى تحقيق العدالة فيها بوسائل شتى:
ـ أولاً: إعلان الأخوة بين أبناء المجتمع الاسلامي، يقول الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)، ويقول محمد (ص): ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
ـ ثانياً: تشديد النكير على كل عمل يوهن الأخوة الاسلامية، ومن أجل ذلك حرّم التعالي والسخرية، بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن).
وحرّم التعريض بالعيوب والتفاخر بالأنساب: (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب).
وحرّم الغيبة والنميمة وسوء الظن: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه).
ـ ثالثاً: الترغيب في كل ما يجمع القلوب ويدعم الوحدة وذلك كالدعوة إلى الإصلاح بقوله (ص): ((ألا أدلك على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ إصلاح ذات البين)).
وكحسن الجوار، بقوله: أتدري ما حق الجار عليك؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابته سراء هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزّيته، وإذا مات اتّبعت جنازته. ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب الريح عنه إلا بإذنه ولا تؤذه بقتاد ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له وإلا فأدخلها إلى بيتك سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)).
وكذلك أغرى الاسلام بالمساعدات والخدمات الاجتماعية فاعتبر مساعدة الضعيف صدقة، وإزاحة الأذى عن الطريق صدقة، وحثّ على التعاون ابتغاء خير الجماعة، فقال تعالى: (وتعاونوا على البرّ والتقوى).
وقال (ع): ((مَن أدخل السرور على أهل بيت من المسلمين لم يَرَ الله له جزاء دون الجنة)). كما قال: ((لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهراً)).
إن كل ما يشيع اليوم بين الناس من كثرة المقاضاة بشأن الديون والحقوق واتساع رقعة الخصومات بشأن الاختلاف بين الناس على الأموال ونحوها مما يوهن من رابطة الأخوة بين المسلمين فيما بينهم وبين غيرهم من بني الانسان لم تكن لتحدث في صورتها الجامحة البشعة إلا نتيجة طغيان غرائز الانسان من الطمع والجشع وحب الاستئثار الذي يجردهم من آدميتهم وإنسانيتهم وعقيدتهم وضمائرهم، وقد جاء الاسلام علاجاً له ودعا إلى نبذه بالحديث النبوي الشريف: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))، قالوا: يا رسول الله! ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ فقال (ع): ((تأخذون فوق يديه وتردعونه عن ظلمه)).
فالظلم ضدّ العدل. والعدل الاسلامي مبدأ مقرر في كل شيء ليس فقط في الأخوة ـ حسبما بيّنا من قريب ـ حتى لا يوهنها الظلم، بل وفي القول وفي العمل وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي النساء وفي الأقارب والأولاد والضعفاء حتى في الجوارح فضلاً عن العدل في الاقتصاد وفي الشهادة وفي الحكم الذي هو فرع من فروع المسؤولية، وهذه ينبغي أن تقوم على أساس العدل المطلق. وهذا يتحقق بمعرفة كل مسؤول ما له وما عليه. وأمثلة ذلك:
1 ـ في القول: (وإذا قلتم فاعدلوا).
2 ـ في العمل: يقول (ص) مخاطباً أهله: ((التمسوا لكم عملاً ينجيكم من الله، فوالله لا أغني عنكم من الله شيئاً)).
3 ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). وتبعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تُلقى على عاتق الفرد وحده، بل تُلقى على عاتق الجماعة كلها. فإذا أهملت ذلك تعرضت للكوارث والويلات. يقول الله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). كما يقول سبحانه: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا تناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
4 ـ في النساء: فالاسلام لا يعترف بالتفرقة الجائرة بين الرجل والمرأة في معنى الانسانية المشترك وفي حق كل منهما، بأن يتمتع بمقتضيات حياته النوعية وخصائصه الطبيعية في إطار الحق والعدل. يقول الله تعالى: (ومَن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً).
5 ـ في الأقارب وذوي الأرحام: يقول الله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام). بمعنى: صلوها واعدلوا فيها ولا تغطوها أو تنسوا حقوقها عليكم فتظلموها.
6 ـ في الاقتصاد: إن كل عدل لا يقوم على اقتصاد منظم.. فهو عدل ناقص بل عدل ظالم ـ إن صحّ التعبير ـ فلن نكون عمليين حين نقول للجائع أو العاري أو المفلس أو العاطل عن العمل، لا ترتكب الجريمة قبل أن نحقق له مجتمعاً صالحاً لا يجوع فيه ولا يعرى ولا يتعطل عن العمل.
هذا وقد تشدد الاسلام في نظرته إلى العدالة من زاويتها الاقتصادية فحرّم ما نسميه نحن اليوم بلغتنا السياسية (الاستفادة غير المشروعة) عن طريق استخدام النفوذ والسلطان. ومن الأمثلة على ذلك سلوك عمر بن الخطاب مع ولده عبدالله حين رأى في طريقه إبلاً سمينة وسأل عمر عنها فقيل له إنها إبل عبدالله بن عمر، فغضب ابن الخطاب وقال: ((ما سمنت إبل عبدالله إلا لأنه أرعاها بجاه أمير المؤمنين، ادفعوا بها إلى بيت المال)) وأمر بمصادرتها.
ومن أمثلة العدل الاقتصادي في الاسلام: ضريبة العشور التي عرفتها معظم الشعوب القديمة كالفراعنة والفرس واليونان والرومان، وهي تشبه ضريبة الجمركية في أيامنا. فكانت تلك الشعوب قبل الاسلام ـ وبخاصة الرومان ـ يجبونها على حدود المناطق المتعددة من الدول الواحدة وكانوا يتقاضونها في العام الواحد مرات عديدة بعدد مرورهم على العاشر (أو الجمركي إذا جاز التعبير)، كما كانوا يتقاضونها على جميع سلع التجارة مهما بلغ ثمنها قليلاً أو كثيراً إلى ما هنالك من صعوبات ترهق كاهل المستورد أو التاجر المتجول على حين إذا ا قارنا نظام الضريبة هذه بنظامها في الاسلام نجد أن الاسلام امتاز فيها عن جميع الشعوب التي سبقته بأنه جمع العدل والرحمة والسماحة والحكمة في فرض تلك الضريبة وفي تقديرها وفي تقاضيها.
أ ـ لم يفرض الاسلام ضريبة العشور ما لم تبلغ قيمة البضاعة نصاب الزكاة الذي هو عشرون مثقالاً من الذهب أو مئتا درهم من الفضة.
ب ـ لا تستوفى في الاسلام ضريبة العشور إلا مرة واحدة في العام مهما تعددت رحلات التاجر عبر دياره.
ج ـ لا تدفع في أرجاء الدولة الاسلامية إلا مرة واحدة مهما تعدد العشار أو (الجمارك).
د ـ لا يتعرض التاجر حال مروره على العاشر للإساءة إليه بتفتيشه، بل يكتفي العاشر بإقراره، لأن عمر بن الخطاب أمر بعدم تفتيش التجار.
هـ ـ لم تكن الأعشار في بداية فرضها تؤخذ من المسلم إذا أدّى زكاته ومن الذميّ إذا أدّى جزيته، إنما كانت تضرب على المحاربين إذا استأذنوا كي يتجروا في أرض المسلمين طبقاً لقاعدة المعاملة بالمثل، لأن ضريبة العشور هذه لم يعرفها الاسلام إلى على عهد عمر بن الخطاب حين كتب إليه أبو موسى الأشعري يستشيره في تجار من المسلمين يدخلون ديار الحرب فيأخذ منهم حكامهم العشور، فكتب إليه عمر بأن يأخذ من المحاربين على تجارتهم إذا دخلوا ديار الاسلام القدر الذي يأخذه هؤلاء من المسلمين وهذا مبدأ المعاملة بالمثل المطبق اليوم عند كافة الدول الراقية.
7 ـ العدل في القصاص والحدود: وكذلك تناولت عدالة الاسلام الحدود، إذ جعلتها متفاوتة لكي يتناسب الحدّ مع الجرم. فجعل الاسلام عقوبة الزنى الرجم للمحصن والجَلد فقط لغير المحصن، تبعاً للفرق بين المتزوج والعازب، فقال (ص): ((البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم)).
8 ـ العدل في الشهادة: والشهادة في الاسلام حق واجب الأداء.. فكل مسلم أو مسلمة مطالب بأداء الشهادة وعدم كتمها، لقول الله تعالى: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون).
9 ـ العدل في الحكم: فقد أمر الله رسوله أن يحكم بالعدل، في قوله سبحانه: (وإذا حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين). كما أمر الله تعالى مَن يأتي من بعد رسول الله من الحكام المسلمين أن يحكموا بالعدل بقوله سبحانه: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
والحكم بالعدل يعني الحكم بما أنزل الله، والحكم بما أنزل الله يعني الحكم بما ورد في كتاب الله وما صح صدوره عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير. هذه الأمور الثلاثة التي تسمى سنّة، والقرآن والسنّة هما المصدران الأساسيان للتشريع في الاسلام. وتفرع عن هذين المصدرين مصدران آخران للتشريع في مذاهب أهل السنة، هما: الإجماع والقياس. فالإجماع هو ما أجمعت عليه الأمة من الأحكام للحديث النبوي الشريف: ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن))، ولحديث آخر: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)). والقياس هو (إلحاق أمر بأمر لعلة مشتركة بينهما). وقد أقرّ رسول الله القياس وامتدحه إذا صدر من أهله حين لا يجد للحادثة حكماً منصوصاً عليه في كتاب الله أو في سنة نبيه، وذلك في قوله لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: ((كيف تصنع إن عرض لك قضاء))؟ قال: أقضي بما في كتاب الله تعالى، قال: ((فإن لم يكن في كتاب الله))؟ قال: فبسنّة رسول الله (ص)، قال: ((فإن لم يكن في سنة رسول الله))؟ قال: ((اجتهد رأيي ولا آلو)) (لا أقصر عن جهد). فضرب رسول الله (ص) بيده صدر معاذ ثم قال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)).
أما الشيعة الإمامية فإن مصادر التشريع عندهم ثلاثة لا غير، هي: الكتاب والسنّة والعقل.
هذا، ولما كان رسول الله (ص) القاضي الأول في الاسلام ـ كما ذكرنا ـ فقد شرّع في القضاء مبادئ وأصولاً ومناهج لإقامة العدل ما زالت حتى يومنا الحاضر تعتبر دستوراً لجميع قضاة الأرض، وستظل عَلَماً ونوراً يهتدون به ويسيرون في ضوئه في كل مكان وعلى كل الأزمان.
من هذه المبادئ والأصول:
أ ـ أنه، عليه الصلاة والسلام، أوجب على كل قاض أن لا يقضي في الحادثة حتى يسمع كلام الخصوم سماع فهم وتدبر، لقوله (ص) للإمام علي، كرم الله وجهه: ((إذا تقاضى إليك رجلاً فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)).
ب أوجب رسول الله على القاضي حين يقضي أن يكون حاضر الذهن هادئ البال، غير منفعل ولا غضبان، حتى يأمن الخطأ في قضائه، فقال (ص): لا يقضين حاكم بين إثنين وهو غضبان)).
ج ـ شرع رسول الله مبدأ البينة على إقامة الحق والعدل، فقال: ((البيّنة على المدعي واليمين على مَن أنكر)).
وأخيراً، رب متسائل يتساءل: هل الحكم بالعدل وترك الظلم والجور يشمل جميع الناس من المؤمنين بالله وغير المؤمنين؟ وأن غير المؤمنين إذا حكموا بالعدل في الدنيا، فهل ينالون ثواب عدلهم في الآخرة، فلدفع هذا التساؤل نقول: ((إن الجزاء جزاءان، جزاء دنيوي، وجزاء أخروي)).
فبالنسبة للأول إن قوانين الحياة وسُنن الطبيعة لا تفرق بين مؤمن وكافر، مصداقاً لقوله سبحانه: (إن الله لا يظلم الناس شيئاً)، ولفظ (الناس): يعمّ المؤمن والكافر، بحيث ينال كل منهما ثواب عدله واستقامته في هذه الحياة الدنيا، لأن الدنيا يعطيها الله للمؤمن والكافر، لمني حب ولمن لا يحب. أما الآخرة فإنه لا يعطيها إلا مَن يحب.
أما جزاء العدل في الآخرة فجائز أن يخفف الله به العذاب عن الكافرين في الدارة الآخرة إذا أحسنوا أعمالهم واستقاموا في الحياة الدنيا. ولكن الثواب على العدل في الآخرة فهو مختص بالمؤمنين فقط، لأن من مستلزمات الثواب يوم القيامة أن يكون الانسان مؤمناً يجمع أركان الإيمان وفي طليعتها الإيمان بالله تعالى وأنه واحد لا شريك له. والذي لا يؤمن هذا الإيمان ولكنه يعدل في الدنيا ويسير على سنن الصلاح والإصلاح فإنه يعمل ما يعمل قاصداً الدنيا وحدها لعدم إيمانه بالآخرة. وهذا منتهى العدل الرباني، حيث يقول سبحانه: (مَن كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومَن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)، وحيث يقول الحديث الشريف: ((إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجازي بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً)).
فمن عدل الله تعالى أن يعطي كل إنسان ما يطلب لا أكثر، وإنما كثيراً ما يوفق الله فاعل الخير والبر والعدل من غير المؤمنين إلى الإيمان لما ورد: ((إن أعمال الخير تختم لصاحبها بخاتمة الخير)).
وهذا يستفاد من قول الله تعالى: (قل مَن كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً)، وبالمقابل قوله: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم).
إن الناس أمام عدل الله سواء، مصداقاً لما قاله الله: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومَن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، ووفاقاً لما أعلنه رسول الله: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يداها)).