بناءها يجدون الجمال في كل شيء له علاقة بحياتهم البسيطة في ظاهرها، و العميقة في فلسفتها التي أوجدت طقوسا ، عادات وتقاليد تكسر
صمت الصحراء وتساعدهم على تحمّل قسوة الطبيعة ،فصمدت هذه العادات و التقاليد لقرون إلى وقتنا هذا . ولم تفلح الغزوات التي
عرفتها المنطقة قديما في اقتلاعها من جذورها التي هي وجدان الأهالي. و لعلّ أهم ما يلفت الانتباه من العادات الأصيلة لسكان منطقة الساورة
بالجنوب الغربي الجزائري و على بعد 1000كم من الجزائر العاصمة هو طريقتهم في إحياء ذكرى مولد خير الأنام ، لنبي محمّد عليه الصلاة و
السلام و التي توارثوها أبا عن جد ، فارتبطت بوجدانهم كأكبر موسم للاحتفال يجمع شمل المجتمع و تطغى فيه مظاهر التكافل الاجتماعي و
البهجة و الفرحة و الاحتفال ، كيف لا و هو اليوم الذي احتضن فيه الكون مخلّص البشرية البشير الهادي النبي محمّد عليه الصلاة و السلام فحق
لهم أن يقيموا هذا الاحتفال الذي يدوم اثني عشر يوما ابتداء من مطلع شهر ربيع الأوّل. الفرحة بمولد الهادي: تعرف ديار الساورة ابتداء
من مطلع شهر ربيع الأول تحضيرات لإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، إذ تسمع من المساجد و الزوايا و المدارس القرآنية قراءات جماعية
للبردة و الهمزية ، وتحضّر النسوة الحنّاء و في البيوت لتخضب أيدي النساء و الأطفال و لا سيّما الذكور منهم الّذين يختنون بمناسبة المولد
النبوي الشريف . كما تحضّر النسوة الأطعمة التقليدية الرئيسية التي تقدم يوم الاحتفال و لعل أهمها "الكسكس" و"البركوكس" و يعرف في
المنطقة ب"المردود" إضافة إلى "الروينة" و هي عبارة عن خليط من مسحوق القمح و الفول السوداني و السكر و بذور نباتات عطرية تعرف في
المنطقة ب"حبة حلاوة و البسباس" ،وهو خليط عادة ما يقدم مع الشاي و الحلوى بمناسبة إنعام إحدى الأسر في المنطقة بمولود جديد. و تبركا
بهذه المناسبة العظيمة يكثر عقد القران و الأفراح بكل أشكالها من عرس و خطوبة و إبرام عقود و الشروع في مشاريع جديدة لتكون ذكرى مولد
خير الأنام عليه الصلاة و السلام ذكرى لكل الأفراح و المناسبات السعيدة . لتشد الرحال يوم اثني عشر ربيع الأول إلى مختلف الزوايا في
المنطقة التي تقيم احتفالات دينية بهذه المناسبة فترى القصر العتيق للقنادسة و الذي يضم زاوية الولي الصالح سيدي محمد بن بوزيان
يزدان بالأطفال و هم بألبستهم الجديدة يسعدون و يدركون قدسية الاحتفال الذي ينتظرونه ليعيشوا هذا الفرح. و نفس المنظر بتفاصيل أكثر
جمالا نراها في زاوية سيدي سليمان بوسماحة بمدينة بني ونيف ، و زاوية سيدي أحمد بن موسى بكرزاز و غيرها من زوايا المنطقة. بني عباس
دهشة الفرجة و روعة الاحتفال إن الحديث عن أميرة العرق الغربي الكبير مدينة بني عبّاس هو حديث عن احتفال شعبي كبير بذكرى المولد
النبوي الشريف ، احتفال يجعلك تقف مشدوها و كأنّك انتقلت إلى كوكب آخر هواؤه الفرح و إكسير الحياة فيه تلاحم اجتماعي لا نظير له . بني
عبّاس المدينة الأميرة والتي تبعد عن مقر ولاية بشار بحولي 250 كم و 1250كم عن الجزائر العاصمة ، هي مدينة التفاصيل الجميلة كلها
،تمتزج فيها عراقة التاريخ بسحر الطبيعة و الخرافة بالشواهد التاريخية في هذه المدينة الفاتنة . واحة العقرب ، الكهف العجيب المعروف
بغار الذيبة ، عين الماء الجارية الغريبة ، أجمل منظر لغروب الشمس من أعالي العرق الغربي الكبير ،نجد فيها أيضا النقوش الصخرية ،
الأدوات التي استعملها رجل العصر الحجري ، الغابة المتحجرة وغيرها من التفاصيل الجميلة التي تحرّك في الإنسان الرغبة في زيارتها و شد
الرحال إليها ، لكن أعجب من هذا كله تلك الاحتفالات الشعبية التي يقيمها الأهالي إحياء لذكرى المولد النبوي الشريف ، لقد توارثوها عن
أجدادهم يقدسونها و يسعدون بها، بكل تفاصيلها. و حسب الباحث في الثقافة الشعبية الأستاذ عدّة محمّد تنفرد مدينة بني عباس بكون هذا
الاحتفال فيها شعبي لا تتدخل أية جهة رسمية في تنظيمه أو تمويله ،فتفاصيل نظامه حددها الأجداد و توارثها الأبناء ، و الأهالي هم من
يموله. مع مطلع شهر ربيع الأول تبدأ التحضيرات لهذا الاحتفال الكبير ، تحضيرات داخل المساجد بترديد البردة و الهمزية بشكل جماعي و بعد
صلاة العشاء يخرج الأهالي إلى الساحة المخصصة للاحتفال ليقيموا حلقة تعرف لديهم ب " محمد صلوا عليه " يقف فيه كل أبناء مدينة بني عباس
على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية و الثقافية ،يرتدون اللباس التقليدي المتمثل في العباءة البيضاء و "الشاش " الأبيض الذي يضعونه على
رؤوسهم يحملون البنادق مردّدين بصوت واحد أهازيجهم الشعبية الجميلة " محمد صلو عليه" و يطلقون البارود في تناغم أخاذ مع زغاريد
النسوة وهي زغاريد تختلف عن الزغاريد في الأيام العادية . فتتحول بني عباس إلى مدينة لا تنام ليخيّل إليك بأنّها تزف إلى فرح لا متناهي.
داخل البيوت يحضر الرجال البارود الذي يعطي للاحتفال نكهة خاصة ،و في يوم الثامن من ربيع الأول تحضر النسوة ما يعرف عندهم ب "حبوس " و
" مناتة " و هما عبارة عن أطباق الكسكس الذي يعرف في المنطقة ب "الطعام"، يقدم لضيوف بني عباس أيام الاحتفالات ، يقال سمي حبوس لأنه
وقف على عائلة من بني عباس على عاتقها تقع مسؤولية تحضير هذا الطعام ، ومناتة أصلها الطعام لمن أتى إذ يحمل الطعام إلى المساجد
ليأكل كل من جاء إلى بني عبّاس ليشاركهم فرحة ذكرى مولد خير الأنام عليه الصلاة و السلام . كما تقيم النسوة ما يعرف "بالحضرة" داخل
البيوت وهي عبارة عن مدائح دينية تعبر من خلالها المرأة عن فرحتها بمولد الهادي ومن جملة الكلمات التي يرددنها : خيري سعدي على محمّد
ودني مولانا بخيار الذكر و في اليوم الحادي عشر من ربيع الأول يقوم الأهالي بصباغة أضرحة أولياء الله الصالحين باللّون الأبيض و هو ما يعرف
لديهم ب " التجيار". و بعد صلاة العصر من نفس اليوم تنطلق مسيرة تلاميذ الزوايا والمدارس القرآنية لزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين
ليجتمعوا بعد ذلك بالأهالي في الساحة المخصصة للاحتفال لتقام الحلقة الكبرى ل "محمد صلوا عليه " و التي يجب أن ينضم إليها كل من كان
أصله من بني عباس ، حتى ولو كان مقيما خارج أرض الوطن . إنها احتفالات تعكس التكافل الاجتماعي التلاحم ، التماسك و التركيز الأحفاد
ليحافظوا على هذه العادات و التقاليد الاحتفالية بذكرى مولد خي ر الأنام محمّد عليه الصلاة و السلام . المدينة لا تنام ليلة 12 ربيع الأول
إذ يلتف الأهالي و الزائرون ضيوف بني عباس في جموع كبيرة للاستمتاع بحلقة الراقصين "محمد صلوا عليه" يؤدون الأهازيج و يطلقون البارود و
يصفقون ، يبهرك منظرهم بلباسهم التقليدي الموحد و بحماسهم في إنجاح الحلقة فلا مجال للخطأ . كما يلفت انتباهك بعض الرجال وهم يحملون
صبية صغارا احتفالا بختانهم بمناسبة المولد النبوي الشريف يلبسونهم لباسا تقليديا يحملون في أيديهم الصغيرة سعف النخيل ، إنهم على
صغر سنّهم يدركون بأنّ ما يحدث شيء رائع يبعث في الأجواء الفرح. أمّا في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول و هو تاريخ ميلاد المصطفى عليه
الصلاة و السلام فيأخذ الاحتفال شكلا آخر و فيه يخرج الرجال الذين كوّنوا طيلة الاحتفالات" حلقة محمد صلوا عليه" ليجوبوا بساتين المدينة
التي هي مصدر رزق الأهالي و كأنّهم يدعونها لمشاركتهم الفرحة الكبرى بميلاد الهادي ، كما ينزلون إلى القصر العتيق يجوبونه و يطلقون
البارود يريدون كسر صمت المكان فهذه ذكرى مولد الهادي الكون كله بكل جزئياته مدعو للفرح ،للتهليل و التكبير و يستمر رجال الحلقة في
هذه الجولة و الأهالي و الزائرون يتبعونهم ، يرددون أهازيجهم ، يصفقون والنساء يزغردن زغرودة المولد . إنها لمشاهد عظيمة، الوجدان و
حده القادر على التقاطها لتمتلئ النفس نشوة وفرحا بهذا الاحتفال المثير والذي تنفرد به مدينة بني عباس، ليبقى راسخا مرتبطا بالمدينة
الأميرة بني عبّاس. السبوع في تميمون ، الفرح الأسطوري: إذا كانت مدينة بني عباس التابعة لولاية بشار تنفرد بأسبوع كامل من الاحتفالات
بذ