مظاهر التربية الإسلامية - للسيد سابق رحمه الله
هذا مقال كتبه الشيخ السيد سابق، المتوفى سنة 1420هـ رحمه الله تعالى، وهو بعنوان (مظاهر التربية الإسلامية)، قال فيه رحمه الله:
إنَّ
الإسلام يَحْرص على تقْويم الأخلاق وتهذيب السلوك، وأمْثَلُ الوسائل
لتحصيل ذلك هو الأخْذ بالتربية الإسلامية، فهي التي تهذِّب نَفْس الإنسان،
وتكمل شخصيته، ومَتَى نمَتْ ذاته وكملت شخصيته، استطاع القيام بواجبِه نحو
الله، ونحو أُسْرته، ونحو إخوانه في الإنسانية، وتعَوَّد كذلك قوْل
الصِّدْق، والحُكْم بالحق، وأشاع الخير بين الناس، وهذه هي درجة الصالحين
التي يريدها الله للذين يتمَسَّكون بالدِّين ويحرصون عليه، فمِن دعاء
الصالحين ما جاء في القرآن الكريم: {رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ
فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
ومن مظاهر التربية الإسلامية انتقاءُ اللَّفْظ النَّظيف والعبارة المهذَّبة حين يريد المرء أن يتكلَّم الكلام، يقول الله سبحانه: {وَقُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}، ويقول الرسول: (رحم الله امرءاً قال خيراً).
ومنها اتِّباع أهدى السُّبُل وأقوم المناهج وأَوْلى بالحقِّ في العمل، يقول الله سبحانه: {فَبَشِّرْ
عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ}.
والمتديِّن يَصُون قلبه من أن تَعْبث به الأهواء، ويتطلَّع دائمًا إلى ما هو أرْضى وأنْقى وأتْقى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}.
ومن
مظاهر التربية الإسلامية علُوُّ الهمَّة وكبر النَّفْس، بحيث تَتْرك
الدُّون من شُؤون الحياة، وتقتحم الصِّعاب في اكْتساب الفضائل والأخلاق
العالية.
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ *** فَلاَ تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ *** كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
ومن
مظاهرها قوَّة الإرادة، والشجاعة الأدبية، بمعنى أن يتحلَّى المرء بالصبر
والاحتمال، والثَّبات والجَلَد، ويطارد الجزَع واليأس والقُنُوط، ويقول
الحقَّ دون أن يَخْشى في الله لومة لائم، وإلى هذا تُشِير الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وقد كان النبي يُبَايع أصحابه على أن يقولوا الحقَّ ولو كان مُرًّا، وألاَّ يخافوا في الله لومة لائم.
والإنسان
الذي يتمَرَّس على التربية الإسلامية الصحيحة لا يعطِّل عقله، ولا
مواهِبَه الفكرية، فلا يصدِّق الوهْم ولا يَأْخذ بالظَّن؛ لأنَّ الظنَّ لا
يغني من الحق شيئًا، وإنما يحكم فيما يَعْرِض له من مسائل العلم والكون،
والطبيعة والحياة؛ لِيَصل إلى العلْم وليبلغ اليقين، وفي هذا يقول الله
سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا}؛
أيْ: لا تَقُل: عَلِمت، والحال أنَّك لم تَر؛ لأنَّ الله سبحانه سيَسأل
الإنسان: من أين جاءه العلم عن كلِّ ما رآه وسَمِعه وعَلِمه.
وقد تَصِل
التربية بالإنسان إلى حدِّ الاستهانة بالحياة، والتَّضحية بالنَّفْس وبكلِّ
شيء؛ من أجْل انتصار العقيدة وإحقاق الحقِّ؛ عن أنس بن النَّضْر أنه لم
يَشْهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزْوة بدْر، فشقَّ ذلك عليه،
وقال: "أوَّل مشْهد شَهِده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غِبْتُ عنه!
لَئِن أراني الله مشهداً فيما بعْد مع رسول الله ليَرَينَّ اللهُ ما أصنع"،
فشَهِد مع رسول الله يوم أحُد، فاستقبل سعْدَ بن معاذ، فقال أنس: "يا أبا
عَمْرو، واهاً لِرِيح الجنَّة! إنِّي أجده دون أحُد"، ثم قاتَلَهم حتى
قُتل، فوُجِد في جسده بضْعٌ وثمانون بين ضربة وطعنة ورَمْية، قالت أختُه
الرُّبَيِّع: "فما عرَفْتُ أخي إلا ببنانه"، وفيه وفي أصحابه نزَلَت هذه
الآية الكريمة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
إن التربية الإسلامية هي التي تَصْنع الرجال، وتَخلُق الأبطال، وتَصِل بالأمة إلى كرامة الدنيا وشرَف الآخرة.
إن
التربية الإسلامية هي التي تخلِّص الإنسان من الأمراض النَّفْسية
والخلُقية والاجتماعية، وجُملة هذه الأمراض كما ذُكِرت في القرآن هي
الضَّعْف واليأس، والبطَر والعُجْب والفَخْر، والظُّلم والجحود، والعجَلَة
والطَّيْش والسَّفَه، والبخل والشُّح، والجدَل والمِرَاء، والشكُّ والجهل،
والغفلة واللَّدَد في الخصومة، والغرور والادِّعاء الكاذب، والهلع والجزع
والمنع، والتمرُّد والعناد، والطغيان وتجاوُز الحدود، وحب المال، والافتنان
بالدُّنيا.
ولا بد مِن معالجة ذلك كلِّه؛ حتى تَبْرأ النفوس من هذه
الأمراض جميعها، وتعود إليها الصِّحَّة والعافية، وتكون نفوساً مطمئنَّة
بالحق والخير، في هذا الفلاح، والفور والنجاح: {وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، ومتى صلحت النفس صلح كل شيء، واستحقَّت أن تُنادَى من قِبَل الحق جلَّ جلاله: {يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي
جَنَّتِي}.
المصدر: مجلة (التوحيد)، المجلد الأول، العدد 6، محرم - جمادى الآخرة 1393هـ، الصفحة 15.