الأدب العربي في العصر العباسي (132 - 656هـ، 749 - 1258م)
قامت
الدولة العباسية على أثر ثورة ضد الأمويين كان العباسيون قد أعدّوا لها في
روّية وإحكام وسريّة عام 132هـ، 749م. وسقطت الدولة العباسية بسقوط بغداد
على أيدي التتار عام 656هـ، 1258م. وقد اصطلح المؤرخون على تقسيم هذه
الخلافة العباسية إلى ثلاثة عصور هي: العصر العباسي الأول، من قيام الخلافة
العباسية إلى أول خلافة المتوكل (132 - 232هـ، 749 - 846م)، والعصر
العباسي الثاني (232 -334هـ، 846 - 945م) من خلافة المتوكل إلى استقرار
الدولة البويهية، والعصر العباسي الثالث (334 - 656هـ ، 945 - 1258م) من
استقرار الدولة البويهية إلى سقوط بغداد على أيدي التتار.
[b]العصر العباسي الأول (132 - 232هـ ، 749 - 846م)
[b]حققت
الدولة الإسلامية في ظل العباسيين تقدمًا حضاريًا كبيرًا، إذ أفادت من
جهود الأمويين ثم زادت عليها أضعافًا تأليفًا وترجمة، فضلاً عن ازدهار فنون
الغناء والموسيقى والعمارة، وازدهار وسائل العيش في الملابس والمساكن
والطعام والشراب. وكان لخلفاء بني العباس إسهام كبير في تشجيع المدّ
الحضاري وتغذيته، فعقدوا المجالس للأدباء والعلماء والمغنين، وأجزلوا
العطاء، وأنشأوا المكتبات ودور العلم، وجلبوا الكتب الأجنبية من شتى
البقاع.
كانت دمشق حاضرة الخلافة الأموية، ثم صارت بغداد حاضرة
العباسيين، وزخرت بالشعراء والعلماء وأهل الفن. وإذا كان الأمويون أدخلوا
الثقافة البيزنطية، فإن العباسيين قد تأثروا بالثقافة والحضارة الفارسية.
كان
من الأمور الناجمة عن الثراء والترف والامتزاج بالشعوب التي فتحت بلدانها
أن نشأت تيارات منحرفة تمثلت في الشعوبية والزندقة والمجون. أما الشعوبية
فهم أولئك القوم الذين عادوا العرب، ولم يروا فيهم إلا بدوًا ورعاة غنم
وسكان خيام، ومجرّد قبائل لم تجمعهم دول منظمة مثل غيرهم من الأمم كالروم
والفرس. ويعكس تيار الشعوبية حقد الشعوب المغلوبة على الأمة العربية التي
حباها الله برسالة الإسلام، وحقق لها الغلبة على أعداء هذه الرسالة. ومن
أشهر دعاة الشعوبية: علاَّن الشعوبي وسهل ابن هارون وبشار بن بُرد وأبو
نواس.
يفسّر الجاحظ في عبارة له تيار الشعوبية فيقول: "إن عامة من ارتاب
بالإسلام إنما كان أولُ ذلك رأي الشعوبية والتمادي فيه وطول الجدال
المؤدّي إلى الضلال، فإذا أبغض شيئًا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض
تلك الجزيرة، وإذا أبغض تلك الجزيرة أحبَّ من أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال
الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هي التي جاءت به،
وهي السلف والقدوة". وعبارة الجاحظ هنا تصور بدقة العلاقة بين الزندقة
والشعوبية باعتبارهما تيارًا معاديًا للعرب والإسلام معًا.
أما
الزندقة، فقد نجمت عن الامتزاج بشعوب من نحَل وديانات شتى، منها المانوية
والمزْدكية والزرادشتية. وقد تعقَّب خلفاء بني العباس هذا التيار بحزم،
وبخاصة الخليفة المهدي، الذي اتخذ ديوانًا خاصًا لتعقّبهم. وكان للكتب التي
حملت أفكار الزندقة أثرها في طائفة من ضعاف النفوس. ويوجد دائمًا في فترات
الانفتاح العقلي من يولع بالتقليد لأرباب الأفكار الشاذة المستوردة، ويميل
إلى اعتناقها والولاء لها أكثر من أربابها.
ومن أشهر زنادقة ذلك العصر:
ابن المقفَّع، الذي قال فيه الخليفة المهدي: "ما وجدت كتاب زندقة قطّ إلا
وأصله ابن المقفع". ومن هؤلاء الزنادقة أيضًا: صالح بن عبد القدوس الشاعر،
وبشّار بن بُرد. وإذا كنا قد خصصنا المهدي بالإشارة في تعقب الزنادقة فإنّ
غيره من خلفاء بني العباس لم يقلوا عنه تحمسًا للعقيدة وتعقبًا لأعدائها من
الزنادقة.
وإذا كان الخلفاء وولاتهم قد تعقَّبوا الزنادقة قتلاً
وقمعًا، فإن المتكلمين تعقبوهم حوارًا ومناظرة، وكثيرًا ما كان الحوار يجري
بحضور الخليفة. كما تعقَّبوهم أيضًا من خلال نقض آرائهم في مقالاتهم
ورسائلهم ومناظراتهم.
أما تيار المجون، فقد كان أيضًا أحد الوجوه
السلبية للاختلاط بالأعاجم وانفتاح المجتمع العربي المسلم على عقائدهم
وعاداتهم وأخلاقهم من خلال هذا الاختلاط ومن خلال حركة الترجمة والنقل التي
اتسعت في هذا العصر اتساعًا عظيمًا. والأمر الذي لا شك فيه أنه كان ثمة
علاقة وثيقة بين هذه الظواهر الثلاث، وهي: الشعوبية والزندقة والمجون، وذلك
بحكم أنها جميعها كانت صادرةً عن مصدر واحد، هو المصدر الأجنبي، كما كانت
صبغة العداء للدولة الإسلامية تشكَّل عاملاً مشتركًا بينها. وحين نطالع
المصادر الأدبية في العصر العباسي يطالعنا أدب مصطبغ بالمجون في شعره وقصصه
وأخباره. وفي كتاب الأغاني الكثير من أخبار أبي نواس وأشعاره، وكذلك مطيع
ابن إياس وحماد عجْرد، وسواهم.
ومع كل ما تقدم فلا ينبغي التصور بأنَّ
حياة المجتمع العباسي قد أسلمت قيادها تمامًا للشعوبية والزندقة والمجون،
وأن هذه الحياة قد تحلَّلت من كل قيود العقيدة والأخلاق، فلقد كان لتيار
الدين سلطانه الذي لم يُقهر، إذ ظهر الزهد والزهَّاد، بل ظهرت بواكير
التصوف، هذا إلى جماهير العلماء والوعاظ وأهل النُسْك، ومجالسهم التي عمرت
بها أرجاء بغداد في مساجدها ورباطاتها وقصورها. ومن هؤلاء عبد الله بن
المبارك، وسفيان الثَّوري، ومعروف الكرْخي، وابن السَّمَّاك. كما كان من
وعاظ البصرة: موسى الأسواريّ الذي وصفه الجاحظ بقوله: " كان من أعاجيب
الدنيا، كانت فصاحته بالفارسـية في وزن فصاحته بالعربية".
على أنه ينبغي
ألا نُغفل تيار الحركة العقلية، إذ نضجت العلوم، ورسخت مناهج البحث فيها،
وكثرت المؤلفات في علوم الدين عقيدة وشريعة، فضلاً عن المؤلفات اللغوية
والنحوية، وكتب الأدب الخاص، ودواوين الشعراء. وقد كان التيار الديني
والتيار العقلي يحاولان معًا كبح تيارات الشعوبية والزندقة والمجون. وإذا
كانت هذه التيارات قد أحدثت آثارها السَّلبية في المجتمع فإنها شكلت لونًا
من ألوان التحدي للعقل العربي، فراح يقاومها بكل سبيل، كما حفزت همم أهل
الغيرة الدينية للتصدي لها والتغلب عليها. وهكذا شهدت الساحة لونًا من
الصراع العقلي والروحي. فكان للإسلام تأثيره الواسع في أنحاء الدولة
الإسلامية، وانتشرت اللغة العربية، وتعربت الشعوب الأعجمية. وإذا كان من
الأعاجـم من عادى الإسـلام وأهله، فإن جمهورهم الـغالب كان سندًا للإسـلام،
وعضدًا للمسلمين.
الشعر
حقق الشعر في هذا العصر تطورًا كبيرًا في
أغراضه وأفكاره وفي شكله الفني، وزنًا وقافية ولغة. وهذه نتيجة طبيعية
لاتساع جوانب التجربة العقلية عن طريق الترجمة والاختلاط بأجناسٍ بشرية
مختلفة، وتطور المعارف الدينية واللغوية والأدبية، واتساع حركة التأليف،
وظهور المعارف الفلسفية. وفي هذا العصر ظهر من يطلق عليهم الباحثون الشعراء
المحدثون، أو الشعراء المولّدون، مثل بشار وأبي نواس ومطيع بن إياس.
وترتب
على تطور الشعر في تلك الحقبة نشأة صراع حادٍ بين أولئك المحدثين، ومن
تصدّى لهم من المحافظين في ما يسمى اصطلاحًا قضية عمود الشعر. أي: (الأصول
التقليدية المرعية للقصيدة العربية). وكان للغويين خاصة دور كبير في تمثيل
تيار المحافظين، وبخاصة في جانبي اللغة والصورة الفنية للقصيدة العربية.
وقد تبدت مظاهر التطور الشعري في الأغراض والمعاني، والوزن، والقافية،
وبناء القصيدة، واللّغة.
الأغراض والمعاني. هناك أغراض جدّت واستحدثت،
وأغراض بقيت على ماكانت عليه، مع شيءٍ من التجديد في بعض عناصرها. فمما
جدَّ من الأغراض الزهد الذي كان أبو العتاهية رمزًا بارزًا له، وهناك أبو
نواس، وهو وإن اشتهر بالمجون والخمريات، فقد ألمّ بشيء من الزهد في بعض
شعره في أخريات حياته. وقد كان هذا الزهد إسلاميَّ الطابع، ومن هنا حفلت
الزهديات بالكثير من قيم التقوى وترقب يوم الحساب والإعراض عن ملذَّات
الحياة الزائلة. وكان هذا الشعر يمثل تيار ردّ الفعل لشعر المجون
والخمريات. ومن الأغراض الجديدة الشعر التعليمي. كما ظهر لون جديد من الشعر
هو الشعر الفكاهي الذي ضم النوادر المضحكة، والمعاني الفكهة. وقد هيّـأ
لظهور هذا اللون الجديد جو المرح واللهو في هذا العصر، وانتشار مجالس الأنس
والسّمر، خاصة في قصور الخلفاء والولاة والأعيان. ومن هذا ما نجده لدى
بشّار في أبيات له تحكي قصة عشق حمارٍ لأتانٍ، وفيها يقول بشّار على لسان
حماره:
سيــدي مِلْ بعناني نحو باب الأصبهاني
إن بالبــاب أتـانـــًا فَضلــتْ كـلَّ أتـــان
تَيَّمتني يـوم رحـنــا بثنــاياهــا الحســـان
وبحســـــنٍ ودلالٍ سـلَّ جسمي وبراني
ولهـا خــدٌ أســـيل مثـل خـد الشيفـران
[b]ثم
سأل أحدُ الجالسين بشارًا عن معنى لفظ الشيفران، فأجابه بشار: هذا من غريب
الحمار فإذا لقيتم حمارًا فاسألوه. وواضح أن الكلمة مرتجلة إمعانًا من
الشاعر في التفكُّه، وكان تفسير بشار لها أكثر فكاهةً. وواضح من الأبيات
سخرية الشاعر من شعراء الغزل في عصره خاصة. كما أن هذا اللون الجديد من
الشعر الفكاهي قد استخدمه فريق من الشعراء للسخرية والنقد لبعض ما لا
يروقهم من الأفكار والعادات.
ظهر في هذا العصر أيضًا ما يسمى بشعر
الطرديات وهو ذلك الشعر الذي يصف رحلات الصيد والطرائد وكلاب الصيد
والصقور، وما إلى ذلك. وهذا الغرض وإن كانت له جذور فيما سبق من العصور فقد
اتسعت جوانبه، وتفنن فيه الشعراء حتى صار فنًا جديدًا، وكان أبو نواس من
أبرز الشعراء ميلاً لهذا الغرض. ولا شك أن حياة الترف والثراء كانت وراء
هذا الغرض الشعري. كما ظهر شعر الشكوى من البؤس، الذي كان تعبيرًا عن بعض
مظاهر الفقر، كما كان سواه صدى لحياة الثراء والترف، وقريب من شعر الشكوى
من البؤس شعر الشكوى من العاهات، وهو ضرب من رثاء ما ذهب من الأعضاء أو
الحواس، مثل أشعار أبي يعقوب الخريمي الذي أكثر من بكاء عاهة العمى لديه،
وتصوير مشاهده ومواقفه بكل صدق. وقد كان هذا الغرض الشعري وأمثاله من
الأغراض نتيجة لعمق الوعي بالذات، فضلاً عن رقَّة المشاعر التي اكتسبها
الشعراء، خاصة بحكم ما أصاب الحياة من التحضر والرفاهية. كما أن دقة تصوير
الشعراء للنفس البشرية في أدق خلجاتها كانت نتيجة لاتساع ألوان الثقافة،
التي تثري التجربة الشعرية وتكسبها العمق والاتساع.
أما الأغراض التي
بقيت مع شيء من التطوير فمنها، على سبيل المثال، المديح، وهو غرض عريق شائع
في الشعر العربي، غير أن الشعراء المحدثين أثروه بما أدخلوا عليه من عمق
التحليل للفضائل النفسية والخلقية، نتيجة لما اكتسبوه من الثقافات، ومثل
ذلك شعر الهجاء، فقد تناولوه أيضًا بشيءٍ من البسط والتحليل للأخلاق، ولكن
في جوانبها السلبية. على أن شعراء هذا العصر بمدائحهم وأهاجيهم قد تغلغلوا
في النفس البشرية وكشفوا عن كوامنها، كما أنهم بتناولهم للفضائل والرذائل
رسموا المثُل التي ينبغي الإقبال عليها.
ولعل شعر الرثاء، وإن كان غرضًا
قديمًا، قد أصابه حظ غير قليل من التطور، فلم يعد رثاءً للناس فحسب، بل
صار رثاءً للمدن والأماكن، كرثاء بغداد على أثر ضربها بالمنجنيق في عصر
الأمين، حيث عمّها الخراب، وعاث في جوانبها المفسدون.
كما طرأ تغيُّرٌ
على الرِّثاء ليصبح رثاءً للحيوان والطيور المستأنسة، وقد استكثر أحمد بن
يوسف الكاتب من هذا اللون الطريف، الذي يدل على اتساع آفاق الإبداع الشعري
نتيجة لاتساع آماد الثقافة.
ويمكن القول إجمالاً أنه ما من غرض شعري قديم إلا دخله التطوير والتجديد على أيدي الشعراء المحدثين، على تباين في ذلك.
اللغة
امتدت حركة التجديد في الشعر إلى اللغة وذلك من جملة وجوه توجز فيما يلي:
أولاً:
سهولة الشعر، ولا يعني هذا أن الشعراء المولعين باللفظ الغريب قد انقرضوا،
فقد بقي منهم أمثال أبي البيداء الرياحي وابن الدُّمينة وأبي ضمضم
الكلابي، وقدكانوا من أهل البادية، كما كانوا رواة للشعر القديم وللغة.
على
أن هذه اللغة السهلة التي عمد إليها الشعراء المحدثون، لقيت إنكارًا من
علماء اللغة الذين لم يكن ذوقهم يسيغ إلا الشعر القديم بألفاظه الغريبة،
وذلك لسببين: الأول يتعلق بقضية الاحتجاج اللغوي، والثاني أنهم كانوا
يقتصرون على رواية الشعر القديم ويتخذونه مادةً للتعليم، ويعتقدون أن هذا
الشعر القديم هو الوعاء الحقيقي لأصول اللغة.
ثانيًا: استخدام بعض
الألفاظ الأعجمية، ومن أشهر الشعراء في ذلك أبو نواس إذ كان يستكثر من هذه
الألفاظ، حتى لتأتي بعض عباراته الشعرية فارسية خالصة، ولا شك أن امتزاج
الأعاجم بالعرب قد قيَّض لهذا الشعر شيئًا من الرواج.
ثالثا: مخالفة بعض
الشعراء للأقيسة المعروفة في اللغة، مما جعل نقاد هذا العصر يتهمون
الشعراء بالخروج على أصول العربية، مع أن في كثير من مخالفات هؤلاء الشعراء
ما يمثل لهجة عربية أو يكون من قبيل الضرورات الشعرية. يقول ابن قتيبة ـ
دفاعًا عن لغة أبي نواس: "وقد كان أبو نُواس يُلَحَّنُ في أشياء من شعره لا
أراه فيها إلا حُجّة من الشعر المتقدم وعلى علَّةٍ بيِّنة من علل النحو".
وخلاصة
ماتقدم أن التجديد في عنصر اللغة خاصة قد أثار تيار الصراع بين القديم،
الذي كان يمثّله اللغويون بمعاييرهم التقليدية المتشددة، وبين الشعراء
المولدين يساندهم فريق من أنصار حركة التجديد، وعلى رأسهم ابن قتيبة.
الأوزان
تطور
شعر هذا العصر في أوزانه، فعمد المولَّدون خاصة إلى المقطعات وإلى
المجزوءات، واستكثروا من الأوزان الخفيفة الزاخرة بالإيقاع وبخاصة المقتضب
والمتدارك، والوزن الأخير أغفله الخليل واستدركه عليه تلميذه الأخفش.
وفي
تجديد الشعراء في القافية استحدثوا ما يسمى بالمزدوج والمسَمّطات.
والمزدوج نوع من النظم المتعدد القوافي، إذ تختلف القافية فيه من بيتٍ إلى
بيت، ثم تتحد القافية في الشطرين المتقابلين، وتكون على بحر الرجز. وقد كثر
استعماله في المنظومات التعليمية بوجه خاص.
أما المسمَّطات فهي قصائد
تتألف من أدوار، يتركب كل دور من أربع شطرات أو أكثر، وتتفق شطرات كل دور
في قافية واحدة، عدا الشطر الأخير، فإن قافيته تكون مخالفة.
بناء القصيدة
من
أهم عناصر التجديد الشعري ما يتعلق ببناء القصيدة، فقد تخلَّص الشعراء
المولّدون من المقدمات الطللية التي كانت لدى القدماء، وتجاوزوها إلى أطلال
مستحدثة اقتضتها تطورات الحياة، فكان هناك أطلال القصور في المدن تستقل
بها قصائد تامة، ولا تتوقف عند المقدمة، ومنها سينية البحتري التي وقف فيها
على أطلال إيوان كسرى وصوَّر لوحاته الفنية المنقوشة على جدرانه. وأحيانًا
يستخدم الشاعر العباسي مقدمات لقصائده في وصف الطبيعة في المدن، وهي تتمثل
في الحدائق التي افتن العباسيون في تنسيقها، كما اتخذوها متنزهات لهم.
النثر
إذا
كان فن الشعر قد تطور على هذا النحو، فإنه من البدهيّ أن يتطور النثر،
بحكم أن النثر ألصق بالواقع وأن الحاجة إليه في أمور الحياة أكثر. وكان هذا
التطور نتيجة طبيعية لهذا السيل من الثقافات الأجنبية المتنوعة في مصادرها
وفي أجناسها، ونتيجة لاتساع مجالات الحياة في هذا العصر. وقد استجاب النثر
العربي لحاجات الواقع الاجتماعية والسياسية والعقلية والدينية، وأثبتت
اللغة العربية مرونتها وقدرتها على التعبير عن هذه الحاجات جميعها. وسوف
نتناول هنا ـ في إيجاز ـ أهم أشكال النثر في هذا العصر بادئين بفن الخطابة.
عرف
العصر العباسي أشكالاً من الخطابة، منها الخطابة السياسية، والخطابة
الدينية، والخطابة الحفلية، فأما الخطابة السياسية فإنها قويت في أول العصر
العباسي بحكم استخدام العباسيين لها في تثبيت سلطانهم ومقاومة أبناء
عمومتهم من العلويين، وبسبب قوة القريحة التي تميز بها أوائل خلفاء بني
العباس كأبي عبد الله السفّاح وأبي جعفر المنصور والرشيد والمأمون، لكن
الخطابة السياسية لم تلبث بعد هذا أن ضعفت حين ترسخ سلطان العباسيين، وحين
جاء من بني العباس جيل ضعفت فيه القريحة الخطابية، وبشكلٍ عام، فإن الخطابة
السياسية لهذا العصر كانت أضعف مما كانت عليه في العصر الأموي.
عرف هذا
العصر الخطابة الدينية، ومارسها بعض الخلفاء، وتوسع فيها الوعاظ. فمن
الخلفاء هارون الرشيد، الذي تدل النصوص على بلاغته وقوة قريحته فضلاً عن
تقواه وورعه. غير أن الخطابة الدينية لدى الخلفاء العباسيين باستثناء القلة
النادرة كانت ضعيفة المستوى بشكل عام. أمّا الوعاظ فقد نهضت على أيديهم
الخطابة الدينية بحكم تخصصهم وبسبب ماتميز به أكثرهم من الفصاحة والبيان،
فضلاً عن سعة ثقافتهم. وعمق مشاعرهم الدينية، وأشهر هؤلاء الخطباء الوعاظ
عمرو بن عبيد المعتزلي واعظ الخليفة أبي جعفر المنصور، وصالح بن عبد الجليل
واعظ المهدي، وابن السمّاك واعظ الرشيد، ومنهم أيضًا موسى بن سيّار
الإسواري، وصالح المرِّي، ولهؤلاء نصوص خطابية أوردتها كبريات المصادر
التاريخية والأدبية، ويزخر كتاب البيان والتبيين للجاحظ بالكثير من نصوصهم
الخطابية، فضلاً عن وصف الجاحظ لهم ولأدبهم.
والفن النثريّ الثاني هو فن
المناظرة، وقد بلغ في هذا العصر مبلغًا كبيرًا من الازدهار، فاق ما سبقه
من العصور، والسبب واضح، وهو أن العصر شهد من اتساع المعارف وتنوعها الشيء
الكثير، وجدير بهذا الاتساع والتنوع أن ينتج خلافًا في الآراء، واختلافًا
في الاتجاهات، فكانت هناك الفرق التي تتناظر فيما بينها، أو تناظر إحداها
خصوم الإسلام من أهل الكتاب وأصحاب العقائد الفلسفية وأهل الزنَّدقة. وأشهر
هذه الفرق المعتزلة، وأشهر مناظريهم أبو الهذيل العلاف والنَّـظَّام. وكان
للمناظرة أكبر الأثر في نشأة علم البلاغة وتطوره، وذلك لحاجة المتناظرين
إلى البيان الناصع والحجة القوية وحضور البديهة وتشقيق المعاني والقدرة على
تحليلها.
ظهر نوع من المناظرة لا يقصد إلى انتصار عقيدة أو ترسيخ مبدأ،
بل كان هدفه الجدل للجدل، والتدليل على البراعة في الاحتجاج والاستدلال،
وهو لون من ألوان الترف العقلي الناجم عن سيطرة الجو الجدلي على ساحة
المعرفة، وقدرة العقل على اكتساب المزيد من القدرة على الحوار والانتصار.
فمن ذلك مثلاً تلك المناظرة الطريفة في المفاضلة بين جمال الديك وجمال
الطاووس، ففريق ينتصر للأول، وآخر ينتصر للثاني، وكل منهم يورد من طريف
الحجج ما يثير العجب حقًا.
ومن الفنون النثرية لهذا العصر فن الرسالة الديوانية وما يلحق بها من العهود والوصايا والتوقيعات. انظر: الرسائل؛ التوقيعات.
[b]العصر العباسي الثاني (232 - 334هـ ، 846 - 945م)
[b]وأول
خلفائه هو المتوكل على الله العباسي، ونهايته ظهور الدولة البويهية. وإذا
كان للفرس في العصر الأول، نفوذهم الثقافي والحضاري الذي ظهرت آثاره في
الأدب والمجتمع، فقد كان للترك نفوذهم السياسي في هذا العصر من خلال تحكمهم
في الخلفاء، مما كان له أثره في إضعاف الخلافة العباسية. وكان الترك
فرسانًا ولكنهم لم يكونوا حملة تراث أدبي أو حضاري.
تزايد الترف في عهد
الخلفاء العباسيين، ومع تزايده ازدهرت حركة الغناء والموسيقى، وعُرف من
المغنِّين والموسيقيين في هذا العصر عمرو بن بانج وابن المكي وعثْعث
وسليمان الطبّال وصالح الدفاف وزُنام الزامر، ومن المغنيات عَريب وبدعة
وشارية وجواريها.
دخلت الموسيقى في هذا العصر مرحلة جديدة من التطور،
وهي التأليف، واختراع بعض الآلات، فظهرت مؤلفات لكل من الكِنْدي والفارابي،
الذي ألف وشارك في تطوير بعض الآلات الموسيقية واخترع آلة العود كما ألف
في الموسيقى إسحاق الموصلي، وعُدّت مؤلفاته، فيما بعد، مصادر أساسية لكتاب
الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني حيث نجد في تضاعيفه نقولاً كثيرة عن مصادر
مختلفة.
وكما عرف العصر السابق الشعوبية والزندقة والمجون، وعرف تيار رد
الفعل ممثلاً في الزهد والتصوف، فكذلك كان هذا العصر. وكلا التيارين كان
له أنصاره، وكان له صداه في الأدب شعرًا ونثرًا. ومثلما تصدى المتدينون
لتياري الزندقة والمجون، تصدّى للشعوبية فريق من الأدباء أمثال الجاحظ وابن
قتيبة. وللجاحظ مقالات وردود على الشعوبية في كتابه البيان والتبيين خاصة،
كما أن لابن قتيبة مبحثًا سماه كتاب العرب أو (الرد على الشعوبية). ومن
عجب ألا تكون الشعوبية مجرد أقوال بين الناس، بل إن الشعوبيين ألّفوا كتبًا
في النَّيل من العرب واحتقار شأنهم، وقد سجّل صاحب الفهرست عناوين لبعض
هذه الكتب، مثل كتاب فضل العجم على العرب وافتخارها لسعيد بن حميد بن
النْختكان.
ونشطت الحركة العلمية في هذا العصر نشاطًا كبيرًا، تمثل في
العناية بالتعليم، لا فرق في ذلك بين الخلفاء وولاتهم، وبين العامة. وكانت
المساجد مراكز نشطة للتعليم، فضلاً عن الكتاتيب وقصور الخلفاء والولاة،
الذين كانوا يجزلون المكافأة للعلماء القائمين على تعليم أبنائهم، كما كثرت
المكتبات وحوانيت الوراقين التي كانت تتكفل ببيع الكتب وشرائها فضلاً عن
نسخها وتجليدها. كما نشطت حركة الرواية والرحلة في طلب العلم وبخاصة
الحديث، كما تزايدت حركة النقل والترجمة ورعاية الخلفاء لها، ومن أشهر
مترجمي هذا العصر إسحاق بن حنين وحنين بن إسحاق ولده وثابت بن قرة. وكانت
حركة الترجمة شاملة للعلوم والفنون والآداب.
وكان من البدهيّ أن تنشط،
أيضًا حركة التأليف في مختلف العلوم والفنون والآداب، وخاصة التأليف في
العلوم الإسلامية عقيدة وشريعة، إذ شهد هذا العصر أوثق مدوَّنات الحديث
وأشهرها، مثل الكتب الستة، وهي صحيحا البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة وأبي
داود والترمذي والنَّسائي. كما شهد تآليف فقهية في المذاهب الأربعة، وتآليف
كلامية خاصة في الاعتزال. كما ظهرت عقليات علمية فذّة لها دورها في تاريخ
العلوم على مستوى العالم بأسره، ومن هؤلاء الخوارزمي في الرياضيات وواضع
علم الجبر، والكِنْدي العالم الفيلسوف، والجاحظ الأديب المتكلم. وبدا
واضحًا أن العقل العربي المسلم استطاع أن يستوعب ثقافات الأمم وأن يتمثلها،
ثم يشارك مشاركة فعالة في الجهود الإنسانية الحضارية، فضلاً عن تميزه
وابتكاره.
الشعر
وأبرز أعلامه، لهذا العصر البحتري وابن الرومي وابن
المعتز، وهؤلاء أشهر شعراء هذه الحقبة، ولكن الذين لم يحظوا بشهرة كشهرتهم
كثير، منهم على سبيل المثال علي بن يحيى المنجِّم وأبو بكر الصولي، وابن
دريد والحسين بن الضحّاك والناشئ الأكبر والخُبز أُرْزي.
ونظرة عامة إلى
ساحة الشعر في هذا العصر، توضح أن حركة التجديد والتطوير قد اقتصرت على
التفنن والاتساع في الأغراض التقليدية، أو تلك التي استحدثت في حقبة العصر
العباسي الأول، فالمديح والهجاء والغزل والوصف اتسع الشعراء في معانيها،
تحليلاً وغوصًا في المعاني. ورثاء المدن والأماكن ـ وهو من مستحدثات العصر
الماضي ـ ظلَّ قائمًا إلى هذا العصر، فتناول البحتري في سينيته المشهورة
إيوان كسرى، يرثيه ويصف أطلاله ويحلل لوحاته ونقوشه في تصوير دقيق رائع.
ويتجه الشعراء بالوصف إلى الطبيعة، ويتوسَّعون أيّما اتساع، وخاصة في وصف
الورود والأزاهير والأشجار والثمار وجداول المياه، وينتج عن توسّعهم في هذا
الوصف باب جديد لفن الوصف. وأشهر الشعراء الواصفين للطبيعة: ابن المعتز
وابن الرومي والصَّنَوْبري. وابن الرومي -غير مدافَع- أبرع الواصفين
المصورين للطبيعة ولغير الطبيعة من المشاهد البشرية والحسية الأخرى.
النثر
ضعفت
الخطابة السياسية والحفلية في هذا العصر، وقويت الخطابة الدينية على أيدي
الوعاظ والقُصّاص كما كان الحال في العصر السابق. وفي هذا العصر نشأت طائفة
جديدة من الوعاظ، هم المذكّرون أي المتصوفة. ومنهم على سبيل المثال: يحيى
بن معاذ الرازي، وأبو حمزة الصوفي. ويؤخذ على أفراد من هذه الطائفة أنهم
أدخلوا في مواعظهم ما ليس من الإسلام مثل فكرة التناسخ وفكرة الحلول. ومن
هؤلاء: أبو يزيد البسطامي، والحلاّج.
أما المناظرات ـ وقد نشأت وازدهرت
منذ العصر العباسي الأول ـ فقد تزايد الاهتمام بها، ولم تعد قاصرة على
طائفة المتكلمين، بل تجاوزتها إلى الفقهاء واللغويين والنحاة. ومن أشهر
المناظرات ما دار بين أبي علي الجبّائي المعتزلي وشيخه أبي الحسن الأشعري،
وما دار بين أبي العباس بن سُريج الفقيه الشافعي وداود الظاهري، ثم محمد بن
داود من بعده، وما دار بين أبي العباس المبرِّد النحوي البصري وأبي العباس
ثعلب النحوي الكوفي، وما كان بين السيرافي النّحوى ومَتَّى بن يونس
المترجم المتفلسف. وكل هذا كان ثمرة طبيعية لتيارات الثقافات الواسعة
والمتباينة، وبخاصة الثقافة الفلسفية.
أما الرسائل الديوانية فقد ظلت على نشاطها، وأبرز كُتّابها إبراهيم بن العبّاس الصّولي كاتب المتوكل وأحمد ابن الخصيب كاتب المنتصر
النقد الأدبي
حقق
النقد الأدبي تقدمًا واسعًا شهده العصر مُمثلاً في كثرة النقاد وتنوع
مناهجهم وشمولية النظرة للأدب. وأبرز نقاد هذا العصر ابن قتيبة في كتابه
الشعر والشعراء كما شهد هذا العصر، أيضًا، نضجًا في التأليف البلاغي الذي
لا يعدم صلته بالنقد الأدبي. وأبرز الأعمال البلاغية النقدية كتاب البديع
لعبد الله بن المعتز مع نثار نقدي قليل ومتفرّق في كتابه طبقات الشعراء
المحدثين، كما لايخلو كتاب الكامل لأبي العباس المبرد من نظرات نقدية
بلاغية هذا إلى ما للجاحظ من جهود رائدة في تأسيس البلاغة الممزوجة بنظرات
نقدية صائبة. وبالجملة فإن القرن الثالث الهجري شهد ظهور أمهات كتب النقد
الأدبي، التي غَدَت مصادر نقدية أساسية للعصور اللاحقة.
[b]العصر العباسي الثالث. من قيام الدولة البويهية إلى سقوط بغداد، (334 - 656هـ ، 945 - 1258م)
[b]بدا
واضحًا في هذا العصر أن الدول والإمارات التي انقسمت إليها الخلافة
العباسية كانت، بحكم ما بينها من تنافس، سببًا في الازدهار الأدبي
والحضاري، وإن كانت عامل ضعف سياسي في بناء الخلافة. وإذا كانت حركة
الترجمة والاتصال بالثقافات الأجنبية قد بدأت تؤتي ثمارها في العصر السابق،
فقد تأكدت نتائج هذا الاتصال بظهور مواهب فنية وعقلية فذّة، كما اتسعت
فنون الأدب، شعره ونثره.
ففي مجال الشعر ظهر المتنبي والمعري والشريف
الرضيّ. وفي مجال النثر ظهر أبو حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني. وفي
مجال التأليف ظهر أبو الفرج الأصفهاني بموسوعته الكبرى الأغاني وبرز أبو
منصور الثعالبي بمؤلفه يتيمة الدهر الذي كان مدرسة في التأريخ الأدبي
احتذاها كثير من المشارقة والمغاربة، هذا إلى كتب أبي علي التنوخي مثل
نشوار المحاضرة، والفرج بعد الشِّدّة.
اتسعت حركة التأليف اللغوي، فشهد
هذا العصر لونًا جديدًا من البحث اللغوي تمثل في كتاب الخصائص لابن
جِنِّي، وظهور أنماط شتى من المعاجم اللغوية. كما تمثل في حركة التأليف في
التاريخ الإسلامي والجغرافيا والعلوم الإسلامية، والفلسفة والعلوم البحتة
والتطبيقية، إلى غير ذلك من العلوم. ويعكس هذا النشاط التأليفي هضم العقل
العربي للثقافات هضمًا جعله قادرًا على الابتكار والإسهام في الحضارة
الإنسانية بجهد متميز.
أما الفنون الأدبية، فأبرزها ما اصطُلح حديثًا
على تسميته بالأدب الشعبي، مثل ألف ليلة وليلة ذات التأثير الواسع والعميق
في الآداب العالمية، وسيرة عنترة، ثم هذا النوع من القصص الابتكاري، ومن
أبرز نماذجه رسالة الغفران لأبي العلاء المعري كما ظهرت في مجال الشعر فنون
شعبية مستحدثة، منها الموشح والزجل والمواليا. وهكذا، فإن الصورة العامة
لهذا العصر أدبًا وعلمًا، تدل على ازدهار متميز حقق به الإبداع العربي
نبوغه ومقدرته الفذة على الابتكار.
ولم يعد الابتكار الفني والعقلي
قاصرًا على بيئة دون أخرى،بل اتسعت رقعة هذا الابتكار ليشمل شتى الحواضر
العربية، ثم يتجاوزها إلى ديار الأعاجم الذين شاركوا ـ بعمق ـ في حركة
الابتكار الفني والعقلي.
الشعر
اصطبغ بصبغ فكري جعله قادرًا على
تجسيد قضايا الإنسان والكون والحياة، دون أن يفقد نبضه الوجداني ومقدرته
الفذة على التخييل والتصوير، وقد ظهر أبو الطيب المتنبي نموذجًا للشاعر
الذي تمثل في عمق شتَّى الثقافات، مع موهبة فنية نادرة النظير وثروة لغوية
وارتكاز على التراث الأصيل، وهو يعبّر عن هموم عصره من خلال ذاته وفكره
وإذا كان المتـنبي والمعري يمثلان النموذج المتفرد في التعبير الإنساني،
فقد كان من الطبيعي أن يظهر إلى جوارهما عشرات الشعراء، ممن كانوا دونهما
نبوغًا وعبقرية، لكنهم، على كل حال، كانوا يمثلون اتجاهات شعرية متباينة
ومستويات شعرية مختلفة. ومن هؤلاء الشعراء: أبو فراس الحمداني، وكشاجم
والوأواء الدِّمشقي والشريف الرضِي ومهيار الدَّيـْلمي وابن نباتة
السَّعْدي. ويزخر كتاب يتيمة الدهر للثعالبي بجمهور كبير من هؤلاء الشعراء
الذين ظهروا في بيئات عربية وأعجمية مختلفة. وإذا كان الأندلس يفاخر المشرق
بفن الموشح، فإن المشرق، في محاولة للتميز، حاول أن يتفرد بدراسة هذا الفن
المستحدث واستخلاص قواعده وأوزانه، فظهر ابن سناء الملك بكتابه دار الطراز
في عمل الموشحات. ولئن عجز ابن سناء الملك عن استخلاص أعاريض الموشح وحصر
أوزانه في كتابه المتقدم فإنه وفق إلى استخلاص سائر قواعده من خلال منهج
سديد جمع بين النظرية والتطبيق.
ونطالع في مرحلة متأخرة من هذا العصر
أسماء شعراء مثل البهاء زهير وابن مطروح، وهما من أصدق الشعراء تمثيلاً
لروح العصر، إذ اتسمت أشعارهما بالرّقة والعفوية، فضلاً عن تلك اللغة
السهلة التي تقترب كثيرًا من لغة الحياة الدارجة، إلى ما لدى البهاء زهير
من نزوع إلى الغزل الذي، وإن لم يعبر عن معاناة حقيقية، يعكس روح الدعابة
وخفة الظل لديه.
كما نطالع شعر التصوف لعمر بن الفارض ولغيره من الشعراء، إذ كان الشعر الصوفي صدىً لتيار التصوف في هذا العصر.
وإذا
كان الغزو الصليبي يشكل لهذا العصر أعمق الأحداث أثرًا في حياة الناس،
خاصة في ديار الشام ومصر، فمن البدهي أن يترك هذا الغزو تأثيره على الشعر،
إذ راح الشعراء يعبرون عن أحزانهم بهزيمة أو أفراحهم بنصر، مع رثاء المدن
أو مدح السلاطين من بني أيوب. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الشعر العربي، لهذه
الحقبة، كان من الضعف بحيث لا نجد شاعرًا فحلاً في مستوى أبي تمام
والمتنبي، وهما يعبران في قصائدهما الحماسية عن حركة النـضال ضد الروم.
النثر
أبرز
أشكال النثر في هذا العصر الفن القصصي، وقد حقق تقدمًا ملحوظًا، فلم يعد
مجرد حكايات تراثية يرويها الأديب، ويُحدث فيها بعض التعديل، بل ظهر القصص
الابتكاري. وتُعدّ مقامات بديع الزمان الهمذاني وتلميذه الحريري أوضح نماذج
القصص الابتكاري الواقعي، ممزوجًا بصبغ تعليمي يتمثل فيما حوته المقامات
من ألفاظ اللغة والألغاز والثروة البلاغية والنقدية.
وإذا كان أدباء
المتصوفة شاركوا في هذا العصر بأشعارهم، فقد شاركوا أيضًا بكتاباتهم التي
تمثلت في تلك الابتهالات التي نجدها لدى أمثال أبي الحسن الشاذلي وتلميذه
ابن عطاء الله السكندري.
وإلى جانب القصص الشعبي عرف هذا العصر النثر
الفكاهي الذي دار حول النقد الاجتماعي للعادات والتقاليد والنقد السياسي
لممارسات بعض الحكام. وكتاب الفاشوش في حكم قراقوش نموذج لهذا اللون من
القصص الفكاهي، الساخر من قراقوش قائد صلاح الدين الأيوبي ونائبه بمصر إبان
الحروب الصليبية. فقد كان الرجل جادًا ملتزمًا في عمله إلى حد القسوة
أحيانًا، مما جعل ابن ممّاتي يحمل عليه ويصوّره، في هذا الكتاب، بصورة
ساخرة مبالغ فيها.
النقد الأدبي
ازدهر النقد الأدبي ازدهارًا كبيرًا
في هذا العصر منتفعًا بما سبق من جهود النقاد. وأهم النقاد في هذا العصر
أبو هلال العسكري والقاضي الجرجاني والآمدي، وابن رشيق القيرواني وابن
الأثير.
وإذا كان أبو هلال العسكري يمثل الاتجاه النظري في النقد،
متأثرًا بشيخه قدامة بن جعفر، فإن القاضي الجرجاني في الوساطة، والآمدي في
الموازنة، يمثلان الاتجاه التطبيقي في النقد الأدبي.
أما كتاب العمدة
لابن رشيق القيرواني، فيعد أشمل مؤلف في دراسة الشعر، إذ لا يقتصر على
النقد بل يتجاوزه إلى البلاغة وبعض الثقافات التراثية التي تُعدّ، بحق،
مفتاحًا لدراسة الشعر العربي القديم، وبخاصة الجاهلي.
كما أن كتاب المثل السائر في أدب الشاعر والناثر لضياء الدين بن الأثير يُعدُّ نموذجًا للنقد الأدبي الذي يجمع بين الشعر والنثر.
قامت
الدولة العباسية على أثر ثورة ضد الأمويين كان العباسيون قد أعدّوا لها في
روّية وإحكام وسريّة عام 132هـ، 749م. وسقطت الدولة العباسية بسقوط بغداد
على أيدي التتار عام 656هـ، 1258م. وقد اصطلح المؤرخون على تقسيم هذه
الخلافة العباسية إلى ثلاثة عصور هي: العصر العباسي الأول، من قيام الخلافة
العباسية إلى أول خلافة المتوكل (132 - 232هـ، 749 - 846م)، والعصر
العباسي الثاني (232 -334هـ، 846 - 945م) من خلافة المتوكل إلى استقرار
الدولة البويهية، والعصر العباسي الثالث (334 - 656هـ ، 945 - 1258م) من
استقرار الدولة البويهية إلى سقوط بغداد على أيدي التتار.
[b]العصر العباسي الأول (132 - 232هـ ، 749 - 846م)
[b]حققت
الدولة الإسلامية في ظل العباسيين تقدمًا حضاريًا كبيرًا، إذ أفادت من
جهود الأمويين ثم زادت عليها أضعافًا تأليفًا وترجمة، فضلاً عن ازدهار فنون
الغناء والموسيقى والعمارة، وازدهار وسائل العيش في الملابس والمساكن
والطعام والشراب. وكان لخلفاء بني العباس إسهام كبير في تشجيع المدّ
الحضاري وتغذيته، فعقدوا المجالس للأدباء والعلماء والمغنين، وأجزلوا
العطاء، وأنشأوا المكتبات ودور العلم، وجلبوا الكتب الأجنبية من شتى
البقاع.
كانت دمشق حاضرة الخلافة الأموية، ثم صارت بغداد حاضرة
العباسيين، وزخرت بالشعراء والعلماء وأهل الفن. وإذا كان الأمويون أدخلوا
الثقافة البيزنطية، فإن العباسيين قد تأثروا بالثقافة والحضارة الفارسية.
كان
من الأمور الناجمة عن الثراء والترف والامتزاج بالشعوب التي فتحت بلدانها
أن نشأت تيارات منحرفة تمثلت في الشعوبية والزندقة والمجون. أما الشعوبية
فهم أولئك القوم الذين عادوا العرب، ولم يروا فيهم إلا بدوًا ورعاة غنم
وسكان خيام، ومجرّد قبائل لم تجمعهم دول منظمة مثل غيرهم من الأمم كالروم
والفرس. ويعكس تيار الشعوبية حقد الشعوب المغلوبة على الأمة العربية التي
حباها الله برسالة الإسلام، وحقق لها الغلبة على أعداء هذه الرسالة. ومن
أشهر دعاة الشعوبية: علاَّن الشعوبي وسهل ابن هارون وبشار بن بُرد وأبو
نواس.
يفسّر الجاحظ في عبارة له تيار الشعوبية فيقول: "إن عامة من ارتاب
بالإسلام إنما كان أولُ ذلك رأي الشعوبية والتمادي فيه وطول الجدال
المؤدّي إلى الضلال، فإذا أبغض شيئًا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض
تلك الجزيرة، وإذا أبغض تلك الجزيرة أحبَّ من أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال
الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هي التي جاءت به،
وهي السلف والقدوة". وعبارة الجاحظ هنا تصور بدقة العلاقة بين الزندقة
والشعوبية باعتبارهما تيارًا معاديًا للعرب والإسلام معًا.
أما
الزندقة، فقد نجمت عن الامتزاج بشعوب من نحَل وديانات شتى، منها المانوية
والمزْدكية والزرادشتية. وقد تعقَّب خلفاء بني العباس هذا التيار بحزم،
وبخاصة الخليفة المهدي، الذي اتخذ ديوانًا خاصًا لتعقّبهم. وكان للكتب التي
حملت أفكار الزندقة أثرها في طائفة من ضعاف النفوس. ويوجد دائمًا في فترات
الانفتاح العقلي من يولع بالتقليد لأرباب الأفكار الشاذة المستوردة، ويميل
إلى اعتناقها والولاء لها أكثر من أربابها.
ومن أشهر زنادقة ذلك العصر:
ابن المقفَّع، الذي قال فيه الخليفة المهدي: "ما وجدت كتاب زندقة قطّ إلا
وأصله ابن المقفع". ومن هؤلاء الزنادقة أيضًا: صالح بن عبد القدوس الشاعر،
وبشّار بن بُرد. وإذا كنا قد خصصنا المهدي بالإشارة في تعقب الزنادقة فإنّ
غيره من خلفاء بني العباس لم يقلوا عنه تحمسًا للعقيدة وتعقبًا لأعدائها من
الزنادقة.
وإذا كان الخلفاء وولاتهم قد تعقَّبوا الزنادقة قتلاً
وقمعًا، فإن المتكلمين تعقبوهم حوارًا ومناظرة، وكثيرًا ما كان الحوار يجري
بحضور الخليفة. كما تعقَّبوهم أيضًا من خلال نقض آرائهم في مقالاتهم
ورسائلهم ومناظراتهم.
أما تيار المجون، فقد كان أيضًا أحد الوجوه
السلبية للاختلاط بالأعاجم وانفتاح المجتمع العربي المسلم على عقائدهم
وعاداتهم وأخلاقهم من خلال هذا الاختلاط ومن خلال حركة الترجمة والنقل التي
اتسعت في هذا العصر اتساعًا عظيمًا. والأمر الذي لا شك فيه أنه كان ثمة
علاقة وثيقة بين هذه الظواهر الثلاث، وهي: الشعوبية والزندقة والمجون، وذلك
بحكم أنها جميعها كانت صادرةً عن مصدر واحد، هو المصدر الأجنبي، كما كانت
صبغة العداء للدولة الإسلامية تشكَّل عاملاً مشتركًا بينها. وحين نطالع
المصادر الأدبية في العصر العباسي يطالعنا أدب مصطبغ بالمجون في شعره وقصصه
وأخباره. وفي كتاب الأغاني الكثير من أخبار أبي نواس وأشعاره، وكذلك مطيع
ابن إياس وحماد عجْرد، وسواهم.
ومع كل ما تقدم فلا ينبغي التصور بأنَّ
حياة المجتمع العباسي قد أسلمت قيادها تمامًا للشعوبية والزندقة والمجون،
وأن هذه الحياة قد تحلَّلت من كل قيود العقيدة والأخلاق، فلقد كان لتيار
الدين سلطانه الذي لم يُقهر، إذ ظهر الزهد والزهَّاد، بل ظهرت بواكير
التصوف، هذا إلى جماهير العلماء والوعاظ وأهل النُسْك، ومجالسهم التي عمرت
بها أرجاء بغداد في مساجدها ورباطاتها وقصورها. ومن هؤلاء عبد الله بن
المبارك، وسفيان الثَّوري، ومعروف الكرْخي، وابن السَّمَّاك. كما كان من
وعاظ البصرة: موسى الأسواريّ الذي وصفه الجاحظ بقوله: " كان من أعاجيب
الدنيا، كانت فصاحته بالفارسـية في وزن فصاحته بالعربية".
على أنه ينبغي
ألا نُغفل تيار الحركة العقلية، إذ نضجت العلوم، ورسخت مناهج البحث فيها،
وكثرت المؤلفات في علوم الدين عقيدة وشريعة، فضلاً عن المؤلفات اللغوية
والنحوية، وكتب الأدب الخاص، ودواوين الشعراء. وقد كان التيار الديني
والتيار العقلي يحاولان معًا كبح تيارات الشعوبية والزندقة والمجون. وإذا
كانت هذه التيارات قد أحدثت آثارها السَّلبية في المجتمع فإنها شكلت لونًا
من ألوان التحدي للعقل العربي، فراح يقاومها بكل سبيل، كما حفزت همم أهل
الغيرة الدينية للتصدي لها والتغلب عليها. وهكذا شهدت الساحة لونًا من
الصراع العقلي والروحي. فكان للإسلام تأثيره الواسع في أنحاء الدولة
الإسلامية، وانتشرت اللغة العربية، وتعربت الشعوب الأعجمية. وإذا كان من
الأعاجـم من عادى الإسـلام وأهله، فإن جمهورهم الـغالب كان سندًا للإسـلام،
وعضدًا للمسلمين.
الشعر
حقق الشعر في هذا العصر تطورًا كبيرًا في
أغراضه وأفكاره وفي شكله الفني، وزنًا وقافية ولغة. وهذه نتيجة طبيعية
لاتساع جوانب التجربة العقلية عن طريق الترجمة والاختلاط بأجناسٍ بشرية
مختلفة، وتطور المعارف الدينية واللغوية والأدبية، واتساع حركة التأليف،
وظهور المعارف الفلسفية. وفي هذا العصر ظهر من يطلق عليهم الباحثون الشعراء
المحدثون، أو الشعراء المولّدون، مثل بشار وأبي نواس ومطيع بن إياس.
وترتب
على تطور الشعر في تلك الحقبة نشأة صراع حادٍ بين أولئك المحدثين، ومن
تصدّى لهم من المحافظين في ما يسمى اصطلاحًا قضية عمود الشعر. أي: (الأصول
التقليدية المرعية للقصيدة العربية). وكان للغويين خاصة دور كبير في تمثيل
تيار المحافظين، وبخاصة في جانبي اللغة والصورة الفنية للقصيدة العربية.
وقد تبدت مظاهر التطور الشعري في الأغراض والمعاني، والوزن، والقافية،
وبناء القصيدة، واللّغة.
الأغراض والمعاني. هناك أغراض جدّت واستحدثت،
وأغراض بقيت على ماكانت عليه، مع شيءٍ من التجديد في بعض عناصرها. فمما
جدَّ من الأغراض الزهد الذي كان أبو العتاهية رمزًا بارزًا له، وهناك أبو
نواس، وهو وإن اشتهر بالمجون والخمريات، فقد ألمّ بشيء من الزهد في بعض
شعره في أخريات حياته. وقد كان هذا الزهد إسلاميَّ الطابع، ومن هنا حفلت
الزهديات بالكثير من قيم التقوى وترقب يوم الحساب والإعراض عن ملذَّات
الحياة الزائلة. وكان هذا الشعر يمثل تيار ردّ الفعل لشعر المجون
والخمريات. ومن الأغراض الجديدة الشعر التعليمي. كما ظهر لون جديد من الشعر
هو الشعر الفكاهي الذي ضم النوادر المضحكة، والمعاني الفكهة. وقد هيّـأ
لظهور هذا اللون الجديد جو المرح واللهو في هذا العصر، وانتشار مجالس الأنس
والسّمر، خاصة في قصور الخلفاء والولاة والأعيان. ومن هذا ما نجده لدى
بشّار في أبيات له تحكي قصة عشق حمارٍ لأتانٍ، وفيها يقول بشّار على لسان
حماره:
سيــدي مِلْ بعناني نحو باب الأصبهاني
إن بالبــاب أتـانـــًا فَضلــتْ كـلَّ أتـــان
تَيَّمتني يـوم رحـنــا بثنــاياهــا الحســـان
وبحســـــنٍ ودلالٍ سـلَّ جسمي وبراني
ولهـا خــدٌ أســـيل مثـل خـد الشيفـران
[b]ثم
سأل أحدُ الجالسين بشارًا عن معنى لفظ الشيفران، فأجابه بشار: هذا من غريب
الحمار فإذا لقيتم حمارًا فاسألوه. وواضح أن الكلمة مرتجلة إمعانًا من
الشاعر في التفكُّه، وكان تفسير بشار لها أكثر فكاهةً. وواضح من الأبيات
سخرية الشاعر من شعراء الغزل في عصره خاصة. كما أن هذا اللون الجديد من
الشعر الفكاهي قد استخدمه فريق من الشعراء للسخرية والنقد لبعض ما لا
يروقهم من الأفكار والعادات.
ظهر في هذا العصر أيضًا ما يسمى بشعر
الطرديات وهو ذلك الشعر الذي يصف رحلات الصيد والطرائد وكلاب الصيد
والصقور، وما إلى ذلك. وهذا الغرض وإن كانت له جذور فيما سبق من العصور فقد
اتسعت جوانبه، وتفنن فيه الشعراء حتى صار فنًا جديدًا، وكان أبو نواس من
أبرز الشعراء ميلاً لهذا الغرض. ولا شك أن حياة الترف والثراء كانت وراء
هذا الغرض الشعري. كما ظهر شعر الشكوى من البؤس، الذي كان تعبيرًا عن بعض
مظاهر الفقر، كما كان سواه صدى لحياة الثراء والترف، وقريب من شعر الشكوى
من البؤس شعر الشكوى من العاهات، وهو ضرب من رثاء ما ذهب من الأعضاء أو
الحواس، مثل أشعار أبي يعقوب الخريمي الذي أكثر من بكاء عاهة العمى لديه،
وتصوير مشاهده ومواقفه بكل صدق. وقد كان هذا الغرض الشعري وأمثاله من
الأغراض نتيجة لعمق الوعي بالذات، فضلاً عن رقَّة المشاعر التي اكتسبها
الشعراء، خاصة بحكم ما أصاب الحياة من التحضر والرفاهية. كما أن دقة تصوير
الشعراء للنفس البشرية في أدق خلجاتها كانت نتيجة لاتساع ألوان الثقافة،
التي تثري التجربة الشعرية وتكسبها العمق والاتساع.
أما الأغراض التي
بقيت مع شيء من التطوير فمنها، على سبيل المثال، المديح، وهو غرض عريق شائع
في الشعر العربي، غير أن الشعراء المحدثين أثروه بما أدخلوا عليه من عمق
التحليل للفضائل النفسية والخلقية، نتيجة لما اكتسبوه من الثقافات، ومثل
ذلك شعر الهجاء، فقد تناولوه أيضًا بشيءٍ من البسط والتحليل للأخلاق، ولكن
في جوانبها السلبية. على أن شعراء هذا العصر بمدائحهم وأهاجيهم قد تغلغلوا
في النفس البشرية وكشفوا عن كوامنها، كما أنهم بتناولهم للفضائل والرذائل
رسموا المثُل التي ينبغي الإقبال عليها.
ولعل شعر الرثاء، وإن كان غرضًا
قديمًا، قد أصابه حظ غير قليل من التطور، فلم يعد رثاءً للناس فحسب، بل
صار رثاءً للمدن والأماكن، كرثاء بغداد على أثر ضربها بالمنجنيق في عصر
الأمين، حيث عمّها الخراب، وعاث في جوانبها المفسدون.
كما طرأ تغيُّرٌ
على الرِّثاء ليصبح رثاءً للحيوان والطيور المستأنسة، وقد استكثر أحمد بن
يوسف الكاتب من هذا اللون الطريف، الذي يدل على اتساع آفاق الإبداع الشعري
نتيجة لاتساع آماد الثقافة.
ويمكن القول إجمالاً أنه ما من غرض شعري قديم إلا دخله التطوير والتجديد على أيدي الشعراء المحدثين، على تباين في ذلك.
اللغة
امتدت حركة التجديد في الشعر إلى اللغة وذلك من جملة وجوه توجز فيما يلي:
أولاً:
سهولة الشعر، ولا يعني هذا أن الشعراء المولعين باللفظ الغريب قد انقرضوا،
فقد بقي منهم أمثال أبي البيداء الرياحي وابن الدُّمينة وأبي ضمضم
الكلابي، وقدكانوا من أهل البادية، كما كانوا رواة للشعر القديم وللغة.
على
أن هذه اللغة السهلة التي عمد إليها الشعراء المحدثون، لقيت إنكارًا من
علماء اللغة الذين لم يكن ذوقهم يسيغ إلا الشعر القديم بألفاظه الغريبة،
وذلك لسببين: الأول يتعلق بقضية الاحتجاج اللغوي، والثاني أنهم كانوا
يقتصرون على رواية الشعر القديم ويتخذونه مادةً للتعليم، ويعتقدون أن هذا
الشعر القديم هو الوعاء الحقيقي لأصول اللغة.
ثانيًا: استخدام بعض
الألفاظ الأعجمية، ومن أشهر الشعراء في ذلك أبو نواس إذ كان يستكثر من هذه
الألفاظ، حتى لتأتي بعض عباراته الشعرية فارسية خالصة، ولا شك أن امتزاج
الأعاجم بالعرب قد قيَّض لهذا الشعر شيئًا من الرواج.
ثالثا: مخالفة بعض
الشعراء للأقيسة المعروفة في اللغة، مما جعل نقاد هذا العصر يتهمون
الشعراء بالخروج على أصول العربية، مع أن في كثير من مخالفات هؤلاء الشعراء
ما يمثل لهجة عربية أو يكون من قبيل الضرورات الشعرية. يقول ابن قتيبة ـ
دفاعًا عن لغة أبي نواس: "وقد كان أبو نُواس يُلَحَّنُ في أشياء من شعره لا
أراه فيها إلا حُجّة من الشعر المتقدم وعلى علَّةٍ بيِّنة من علل النحو".
وخلاصة
ماتقدم أن التجديد في عنصر اللغة خاصة قد أثار تيار الصراع بين القديم،
الذي كان يمثّله اللغويون بمعاييرهم التقليدية المتشددة، وبين الشعراء
المولدين يساندهم فريق من أنصار حركة التجديد، وعلى رأسهم ابن قتيبة.
الأوزان
تطور
شعر هذا العصر في أوزانه، فعمد المولَّدون خاصة إلى المقطعات وإلى
المجزوءات، واستكثروا من الأوزان الخفيفة الزاخرة بالإيقاع وبخاصة المقتضب
والمتدارك، والوزن الأخير أغفله الخليل واستدركه عليه تلميذه الأخفش.
وفي
تجديد الشعراء في القافية استحدثوا ما يسمى بالمزدوج والمسَمّطات.
والمزدوج نوع من النظم المتعدد القوافي، إذ تختلف القافية فيه من بيتٍ إلى
بيت، ثم تتحد القافية في الشطرين المتقابلين، وتكون على بحر الرجز. وقد كثر
استعماله في المنظومات التعليمية بوجه خاص.
أما المسمَّطات فهي قصائد
تتألف من أدوار، يتركب كل دور من أربع شطرات أو أكثر، وتتفق شطرات كل دور
في قافية واحدة، عدا الشطر الأخير، فإن قافيته تكون مخالفة.
بناء القصيدة
من
أهم عناصر التجديد الشعري ما يتعلق ببناء القصيدة، فقد تخلَّص الشعراء
المولّدون من المقدمات الطللية التي كانت لدى القدماء، وتجاوزوها إلى أطلال
مستحدثة اقتضتها تطورات الحياة، فكان هناك أطلال القصور في المدن تستقل
بها قصائد تامة، ولا تتوقف عند المقدمة، ومنها سينية البحتري التي وقف فيها
على أطلال إيوان كسرى وصوَّر لوحاته الفنية المنقوشة على جدرانه. وأحيانًا
يستخدم الشاعر العباسي مقدمات لقصائده في وصف الطبيعة في المدن، وهي تتمثل
في الحدائق التي افتن العباسيون في تنسيقها، كما اتخذوها متنزهات لهم.
النثر
إذا
كان فن الشعر قد تطور على هذا النحو، فإنه من البدهيّ أن يتطور النثر،
بحكم أن النثر ألصق بالواقع وأن الحاجة إليه في أمور الحياة أكثر. وكان هذا
التطور نتيجة طبيعية لهذا السيل من الثقافات الأجنبية المتنوعة في مصادرها
وفي أجناسها، ونتيجة لاتساع مجالات الحياة في هذا العصر. وقد استجاب النثر
العربي لحاجات الواقع الاجتماعية والسياسية والعقلية والدينية، وأثبتت
اللغة العربية مرونتها وقدرتها على التعبير عن هذه الحاجات جميعها. وسوف
نتناول هنا ـ في إيجاز ـ أهم أشكال النثر في هذا العصر بادئين بفن الخطابة.
عرف
العصر العباسي أشكالاً من الخطابة، منها الخطابة السياسية، والخطابة
الدينية، والخطابة الحفلية، فأما الخطابة السياسية فإنها قويت في أول العصر
العباسي بحكم استخدام العباسيين لها في تثبيت سلطانهم ومقاومة أبناء
عمومتهم من العلويين، وبسبب قوة القريحة التي تميز بها أوائل خلفاء بني
العباس كأبي عبد الله السفّاح وأبي جعفر المنصور والرشيد والمأمون، لكن
الخطابة السياسية لم تلبث بعد هذا أن ضعفت حين ترسخ سلطان العباسيين، وحين
جاء من بني العباس جيل ضعفت فيه القريحة الخطابية، وبشكلٍ عام، فإن الخطابة
السياسية لهذا العصر كانت أضعف مما كانت عليه في العصر الأموي.
عرف هذا
العصر الخطابة الدينية، ومارسها بعض الخلفاء، وتوسع فيها الوعاظ. فمن
الخلفاء هارون الرشيد، الذي تدل النصوص على بلاغته وقوة قريحته فضلاً عن
تقواه وورعه. غير أن الخطابة الدينية لدى الخلفاء العباسيين باستثناء القلة
النادرة كانت ضعيفة المستوى بشكل عام. أمّا الوعاظ فقد نهضت على أيديهم
الخطابة الدينية بحكم تخصصهم وبسبب ماتميز به أكثرهم من الفصاحة والبيان،
فضلاً عن سعة ثقافتهم. وعمق مشاعرهم الدينية، وأشهر هؤلاء الخطباء الوعاظ
عمرو بن عبيد المعتزلي واعظ الخليفة أبي جعفر المنصور، وصالح بن عبد الجليل
واعظ المهدي، وابن السمّاك واعظ الرشيد، ومنهم أيضًا موسى بن سيّار
الإسواري، وصالح المرِّي، ولهؤلاء نصوص خطابية أوردتها كبريات المصادر
التاريخية والأدبية، ويزخر كتاب البيان والتبيين للجاحظ بالكثير من نصوصهم
الخطابية، فضلاً عن وصف الجاحظ لهم ولأدبهم.
والفن النثريّ الثاني هو فن
المناظرة، وقد بلغ في هذا العصر مبلغًا كبيرًا من الازدهار، فاق ما سبقه
من العصور، والسبب واضح، وهو أن العصر شهد من اتساع المعارف وتنوعها الشيء
الكثير، وجدير بهذا الاتساع والتنوع أن ينتج خلافًا في الآراء، واختلافًا
في الاتجاهات، فكانت هناك الفرق التي تتناظر فيما بينها، أو تناظر إحداها
خصوم الإسلام من أهل الكتاب وأصحاب العقائد الفلسفية وأهل الزنَّدقة. وأشهر
هذه الفرق المعتزلة، وأشهر مناظريهم أبو الهذيل العلاف والنَّـظَّام. وكان
للمناظرة أكبر الأثر في نشأة علم البلاغة وتطوره، وذلك لحاجة المتناظرين
إلى البيان الناصع والحجة القوية وحضور البديهة وتشقيق المعاني والقدرة على
تحليلها.
ظهر نوع من المناظرة لا يقصد إلى انتصار عقيدة أو ترسيخ مبدأ،
بل كان هدفه الجدل للجدل، والتدليل على البراعة في الاحتجاج والاستدلال،
وهو لون من ألوان الترف العقلي الناجم عن سيطرة الجو الجدلي على ساحة
المعرفة، وقدرة العقل على اكتساب المزيد من القدرة على الحوار والانتصار.
فمن ذلك مثلاً تلك المناظرة الطريفة في المفاضلة بين جمال الديك وجمال
الطاووس، ففريق ينتصر للأول، وآخر ينتصر للثاني، وكل منهم يورد من طريف
الحجج ما يثير العجب حقًا.
ومن الفنون النثرية لهذا العصر فن الرسالة الديوانية وما يلحق بها من العهود والوصايا والتوقيعات. انظر: الرسائل؛ التوقيعات.
[b]العصر العباسي الثاني (232 - 334هـ ، 846 - 945م)
[b]وأول
خلفائه هو المتوكل على الله العباسي، ونهايته ظهور الدولة البويهية. وإذا
كان للفرس في العصر الأول، نفوذهم الثقافي والحضاري الذي ظهرت آثاره في
الأدب والمجتمع، فقد كان للترك نفوذهم السياسي في هذا العصر من خلال تحكمهم
في الخلفاء، مما كان له أثره في إضعاف الخلافة العباسية. وكان الترك
فرسانًا ولكنهم لم يكونوا حملة تراث أدبي أو حضاري.
تزايد الترف في عهد
الخلفاء العباسيين، ومع تزايده ازدهرت حركة الغناء والموسيقى، وعُرف من
المغنِّين والموسيقيين في هذا العصر عمرو بن بانج وابن المكي وعثْعث
وسليمان الطبّال وصالح الدفاف وزُنام الزامر، ومن المغنيات عَريب وبدعة
وشارية وجواريها.
دخلت الموسيقى في هذا العصر مرحلة جديدة من التطور،
وهي التأليف، واختراع بعض الآلات، فظهرت مؤلفات لكل من الكِنْدي والفارابي،
الذي ألف وشارك في تطوير بعض الآلات الموسيقية واخترع آلة العود كما ألف
في الموسيقى إسحاق الموصلي، وعُدّت مؤلفاته، فيما بعد، مصادر أساسية لكتاب
الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني حيث نجد في تضاعيفه نقولاً كثيرة عن مصادر
مختلفة.
وكما عرف العصر السابق الشعوبية والزندقة والمجون، وعرف تيار رد
الفعل ممثلاً في الزهد والتصوف، فكذلك كان هذا العصر. وكلا التيارين كان
له أنصاره، وكان له صداه في الأدب شعرًا ونثرًا. ومثلما تصدى المتدينون
لتياري الزندقة والمجون، تصدّى للشعوبية فريق من الأدباء أمثال الجاحظ وابن
قتيبة. وللجاحظ مقالات وردود على الشعوبية في كتابه البيان والتبيين خاصة،
كما أن لابن قتيبة مبحثًا سماه كتاب العرب أو (الرد على الشعوبية). ومن
عجب ألا تكون الشعوبية مجرد أقوال بين الناس، بل إن الشعوبيين ألّفوا كتبًا
في النَّيل من العرب واحتقار شأنهم، وقد سجّل صاحب الفهرست عناوين لبعض
هذه الكتب، مثل كتاب فضل العجم على العرب وافتخارها لسعيد بن حميد بن
النْختكان.
ونشطت الحركة العلمية في هذا العصر نشاطًا كبيرًا، تمثل في
العناية بالتعليم، لا فرق في ذلك بين الخلفاء وولاتهم، وبين العامة. وكانت
المساجد مراكز نشطة للتعليم، فضلاً عن الكتاتيب وقصور الخلفاء والولاة،
الذين كانوا يجزلون المكافأة للعلماء القائمين على تعليم أبنائهم، كما كثرت
المكتبات وحوانيت الوراقين التي كانت تتكفل ببيع الكتب وشرائها فضلاً عن
نسخها وتجليدها. كما نشطت حركة الرواية والرحلة في طلب العلم وبخاصة
الحديث، كما تزايدت حركة النقل والترجمة ورعاية الخلفاء لها، ومن أشهر
مترجمي هذا العصر إسحاق بن حنين وحنين بن إسحاق ولده وثابت بن قرة. وكانت
حركة الترجمة شاملة للعلوم والفنون والآداب.
وكان من البدهيّ أن تنشط،
أيضًا حركة التأليف في مختلف العلوم والفنون والآداب، وخاصة التأليف في
العلوم الإسلامية عقيدة وشريعة، إذ شهد هذا العصر أوثق مدوَّنات الحديث
وأشهرها، مثل الكتب الستة، وهي صحيحا البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة وأبي
داود والترمذي والنَّسائي. كما شهد تآليف فقهية في المذاهب الأربعة، وتآليف
كلامية خاصة في الاعتزال. كما ظهرت عقليات علمية فذّة لها دورها في تاريخ
العلوم على مستوى العالم بأسره، ومن هؤلاء الخوارزمي في الرياضيات وواضع
علم الجبر، والكِنْدي العالم الفيلسوف، والجاحظ الأديب المتكلم. وبدا
واضحًا أن العقل العربي المسلم استطاع أن يستوعب ثقافات الأمم وأن يتمثلها،
ثم يشارك مشاركة فعالة في الجهود الإنسانية الحضارية، فضلاً عن تميزه
وابتكاره.
الشعر
وأبرز أعلامه، لهذا العصر البحتري وابن الرومي وابن
المعتز، وهؤلاء أشهر شعراء هذه الحقبة، ولكن الذين لم يحظوا بشهرة كشهرتهم
كثير، منهم على سبيل المثال علي بن يحيى المنجِّم وأبو بكر الصولي، وابن
دريد والحسين بن الضحّاك والناشئ الأكبر والخُبز أُرْزي.
ونظرة عامة إلى
ساحة الشعر في هذا العصر، توضح أن حركة التجديد والتطوير قد اقتصرت على
التفنن والاتساع في الأغراض التقليدية، أو تلك التي استحدثت في حقبة العصر
العباسي الأول، فالمديح والهجاء والغزل والوصف اتسع الشعراء في معانيها،
تحليلاً وغوصًا في المعاني. ورثاء المدن والأماكن ـ وهو من مستحدثات العصر
الماضي ـ ظلَّ قائمًا إلى هذا العصر، فتناول البحتري في سينيته المشهورة
إيوان كسرى، يرثيه ويصف أطلاله ويحلل لوحاته ونقوشه في تصوير دقيق رائع.
ويتجه الشعراء بالوصف إلى الطبيعة، ويتوسَّعون أيّما اتساع، وخاصة في وصف
الورود والأزاهير والأشجار والثمار وجداول المياه، وينتج عن توسّعهم في هذا
الوصف باب جديد لفن الوصف. وأشهر الشعراء الواصفين للطبيعة: ابن المعتز
وابن الرومي والصَّنَوْبري. وابن الرومي -غير مدافَع- أبرع الواصفين
المصورين للطبيعة ولغير الطبيعة من المشاهد البشرية والحسية الأخرى.
النثر
ضعفت
الخطابة السياسية والحفلية في هذا العصر، وقويت الخطابة الدينية على أيدي
الوعاظ والقُصّاص كما كان الحال في العصر السابق. وفي هذا العصر نشأت طائفة
جديدة من الوعاظ، هم المذكّرون أي المتصوفة. ومنهم على سبيل المثال: يحيى
بن معاذ الرازي، وأبو حمزة الصوفي. ويؤخذ على أفراد من هذه الطائفة أنهم
أدخلوا في مواعظهم ما ليس من الإسلام مثل فكرة التناسخ وفكرة الحلول. ومن
هؤلاء: أبو يزيد البسطامي، والحلاّج.
أما المناظرات ـ وقد نشأت وازدهرت
منذ العصر العباسي الأول ـ فقد تزايد الاهتمام بها، ولم تعد قاصرة على
طائفة المتكلمين، بل تجاوزتها إلى الفقهاء واللغويين والنحاة. ومن أشهر
المناظرات ما دار بين أبي علي الجبّائي المعتزلي وشيخه أبي الحسن الأشعري،
وما دار بين أبي العباس بن سُريج الفقيه الشافعي وداود الظاهري، ثم محمد بن
داود من بعده، وما دار بين أبي العباس المبرِّد النحوي البصري وأبي العباس
ثعلب النحوي الكوفي، وما كان بين السيرافي النّحوى ومَتَّى بن يونس
المترجم المتفلسف. وكل هذا كان ثمرة طبيعية لتيارات الثقافات الواسعة
والمتباينة، وبخاصة الثقافة الفلسفية.
أما الرسائل الديوانية فقد ظلت على نشاطها، وأبرز كُتّابها إبراهيم بن العبّاس الصّولي كاتب المتوكل وأحمد ابن الخصيب كاتب المنتصر
النقد الأدبي
حقق
النقد الأدبي تقدمًا واسعًا شهده العصر مُمثلاً في كثرة النقاد وتنوع
مناهجهم وشمولية النظرة للأدب. وأبرز نقاد هذا العصر ابن قتيبة في كتابه
الشعر والشعراء كما شهد هذا العصر، أيضًا، نضجًا في التأليف البلاغي الذي
لا يعدم صلته بالنقد الأدبي. وأبرز الأعمال البلاغية النقدية كتاب البديع
لعبد الله بن المعتز مع نثار نقدي قليل ومتفرّق في كتابه طبقات الشعراء
المحدثين، كما لايخلو كتاب الكامل لأبي العباس المبرد من نظرات نقدية
بلاغية هذا إلى ما للجاحظ من جهود رائدة في تأسيس البلاغة الممزوجة بنظرات
نقدية صائبة. وبالجملة فإن القرن الثالث الهجري شهد ظهور أمهات كتب النقد
الأدبي، التي غَدَت مصادر نقدية أساسية للعصور اللاحقة.
[b]العصر العباسي الثالث. من قيام الدولة البويهية إلى سقوط بغداد، (334 - 656هـ ، 945 - 1258م)
[b]بدا
واضحًا في هذا العصر أن الدول والإمارات التي انقسمت إليها الخلافة
العباسية كانت، بحكم ما بينها من تنافس، سببًا في الازدهار الأدبي
والحضاري، وإن كانت عامل ضعف سياسي في بناء الخلافة. وإذا كانت حركة
الترجمة والاتصال بالثقافات الأجنبية قد بدأت تؤتي ثمارها في العصر السابق،
فقد تأكدت نتائج هذا الاتصال بظهور مواهب فنية وعقلية فذّة، كما اتسعت
فنون الأدب، شعره ونثره.
ففي مجال الشعر ظهر المتنبي والمعري والشريف
الرضيّ. وفي مجال النثر ظهر أبو حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني. وفي
مجال التأليف ظهر أبو الفرج الأصفهاني بموسوعته الكبرى الأغاني وبرز أبو
منصور الثعالبي بمؤلفه يتيمة الدهر الذي كان مدرسة في التأريخ الأدبي
احتذاها كثير من المشارقة والمغاربة، هذا إلى كتب أبي علي التنوخي مثل
نشوار المحاضرة، والفرج بعد الشِّدّة.
اتسعت حركة التأليف اللغوي، فشهد
هذا العصر لونًا جديدًا من البحث اللغوي تمثل في كتاب الخصائص لابن
جِنِّي، وظهور أنماط شتى من المعاجم اللغوية. كما تمثل في حركة التأليف في
التاريخ الإسلامي والجغرافيا والعلوم الإسلامية، والفلسفة والعلوم البحتة
والتطبيقية، إلى غير ذلك من العلوم. ويعكس هذا النشاط التأليفي هضم العقل
العربي للثقافات هضمًا جعله قادرًا على الابتكار والإسهام في الحضارة
الإنسانية بجهد متميز.
أما الفنون الأدبية، فأبرزها ما اصطُلح حديثًا
على تسميته بالأدب الشعبي، مثل ألف ليلة وليلة ذات التأثير الواسع والعميق
في الآداب العالمية، وسيرة عنترة، ثم هذا النوع من القصص الابتكاري، ومن
أبرز نماذجه رسالة الغفران لأبي العلاء المعري كما ظهرت في مجال الشعر فنون
شعبية مستحدثة، منها الموشح والزجل والمواليا. وهكذا، فإن الصورة العامة
لهذا العصر أدبًا وعلمًا، تدل على ازدهار متميز حقق به الإبداع العربي
نبوغه ومقدرته الفذة على الابتكار.
ولم يعد الابتكار الفني والعقلي
قاصرًا على بيئة دون أخرى،بل اتسعت رقعة هذا الابتكار ليشمل شتى الحواضر
العربية، ثم يتجاوزها إلى ديار الأعاجم الذين شاركوا ـ بعمق ـ في حركة
الابتكار الفني والعقلي.
الشعر
اصطبغ بصبغ فكري جعله قادرًا على
تجسيد قضايا الإنسان والكون والحياة، دون أن يفقد نبضه الوجداني ومقدرته
الفذة على التخييل والتصوير، وقد ظهر أبو الطيب المتنبي نموذجًا للشاعر
الذي تمثل في عمق شتَّى الثقافات، مع موهبة فنية نادرة النظير وثروة لغوية
وارتكاز على التراث الأصيل، وهو يعبّر عن هموم عصره من خلال ذاته وفكره
وإذا كان المتـنبي والمعري يمثلان النموذج المتفرد في التعبير الإنساني،
فقد كان من الطبيعي أن يظهر إلى جوارهما عشرات الشعراء، ممن كانوا دونهما
نبوغًا وعبقرية، لكنهم، على كل حال، كانوا يمثلون اتجاهات شعرية متباينة
ومستويات شعرية مختلفة. ومن هؤلاء الشعراء: أبو فراس الحمداني، وكشاجم
والوأواء الدِّمشقي والشريف الرضِي ومهيار الدَّيـْلمي وابن نباتة
السَّعْدي. ويزخر كتاب يتيمة الدهر للثعالبي بجمهور كبير من هؤلاء الشعراء
الذين ظهروا في بيئات عربية وأعجمية مختلفة. وإذا كان الأندلس يفاخر المشرق
بفن الموشح، فإن المشرق، في محاولة للتميز، حاول أن يتفرد بدراسة هذا الفن
المستحدث واستخلاص قواعده وأوزانه، فظهر ابن سناء الملك بكتابه دار الطراز
في عمل الموشحات. ولئن عجز ابن سناء الملك عن استخلاص أعاريض الموشح وحصر
أوزانه في كتابه المتقدم فإنه وفق إلى استخلاص سائر قواعده من خلال منهج
سديد جمع بين النظرية والتطبيق.
ونطالع في مرحلة متأخرة من هذا العصر
أسماء شعراء مثل البهاء زهير وابن مطروح، وهما من أصدق الشعراء تمثيلاً
لروح العصر، إذ اتسمت أشعارهما بالرّقة والعفوية، فضلاً عن تلك اللغة
السهلة التي تقترب كثيرًا من لغة الحياة الدارجة، إلى ما لدى البهاء زهير
من نزوع إلى الغزل الذي، وإن لم يعبر عن معاناة حقيقية، يعكس روح الدعابة
وخفة الظل لديه.
كما نطالع شعر التصوف لعمر بن الفارض ولغيره من الشعراء، إذ كان الشعر الصوفي صدىً لتيار التصوف في هذا العصر.
وإذا
كان الغزو الصليبي يشكل لهذا العصر أعمق الأحداث أثرًا في حياة الناس،
خاصة في ديار الشام ومصر، فمن البدهي أن يترك هذا الغزو تأثيره على الشعر،
إذ راح الشعراء يعبرون عن أحزانهم بهزيمة أو أفراحهم بنصر، مع رثاء المدن
أو مدح السلاطين من بني أيوب. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الشعر العربي، لهذه
الحقبة، كان من الضعف بحيث لا نجد شاعرًا فحلاً في مستوى أبي تمام
والمتنبي، وهما يعبران في قصائدهما الحماسية عن حركة النـضال ضد الروم.
النثر
أبرز
أشكال النثر في هذا العصر الفن القصصي، وقد حقق تقدمًا ملحوظًا، فلم يعد
مجرد حكايات تراثية يرويها الأديب، ويُحدث فيها بعض التعديل، بل ظهر القصص
الابتكاري. وتُعدّ مقامات بديع الزمان الهمذاني وتلميذه الحريري أوضح نماذج
القصص الابتكاري الواقعي، ممزوجًا بصبغ تعليمي يتمثل فيما حوته المقامات
من ألفاظ اللغة والألغاز والثروة البلاغية والنقدية.
وإذا كان أدباء
المتصوفة شاركوا في هذا العصر بأشعارهم، فقد شاركوا أيضًا بكتاباتهم التي
تمثلت في تلك الابتهالات التي نجدها لدى أمثال أبي الحسن الشاذلي وتلميذه
ابن عطاء الله السكندري.
وإلى جانب القصص الشعبي عرف هذا العصر النثر
الفكاهي الذي دار حول النقد الاجتماعي للعادات والتقاليد والنقد السياسي
لممارسات بعض الحكام. وكتاب الفاشوش في حكم قراقوش نموذج لهذا اللون من
القصص الفكاهي، الساخر من قراقوش قائد صلاح الدين الأيوبي ونائبه بمصر إبان
الحروب الصليبية. فقد كان الرجل جادًا ملتزمًا في عمله إلى حد القسوة
أحيانًا، مما جعل ابن ممّاتي يحمل عليه ويصوّره، في هذا الكتاب، بصورة
ساخرة مبالغ فيها.
النقد الأدبي
ازدهر النقد الأدبي ازدهارًا كبيرًا
في هذا العصر منتفعًا بما سبق من جهود النقاد. وأهم النقاد في هذا العصر
أبو هلال العسكري والقاضي الجرجاني والآمدي، وابن رشيق القيرواني وابن
الأثير.
وإذا كان أبو هلال العسكري يمثل الاتجاه النظري في النقد،
متأثرًا بشيخه قدامة بن جعفر، فإن القاضي الجرجاني في الوساطة، والآمدي في
الموازنة، يمثلان الاتجاه التطبيقي في النقد الأدبي.
أما كتاب العمدة
لابن رشيق القيرواني، فيعد أشمل مؤلف في دراسة الشعر، إذ لا يقتصر على
النقد بل يتجاوزه إلى البلاغة وبعض الثقافات التراثية التي تُعدّ، بحق،
مفتاحًا لدراسة الشعر العربي القديم، وبخاصة الجاهلي.
كما أن كتاب المثل السائر في أدب الشاعر والناثر لضياء الدين بن الأثير يُعدُّ نموذجًا للنقد الأدبي الذي يجمع بين الشعر والنثر.