هذا موضوع يدعم المشروع الثاني
و هو من مظاهر الحياة الأدبية والاجتماعية و الاقتصادية في العصر الجاهلي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
عرب الجاهلية
مدلول مصطلح الجاهلية :
ونحب
أن نصحح بعض المفاهيم الخاطئة عن هذا العصر ، فقد درج أكثر القدماء
والمحدثين على تفسير معنى الجاهلية بالأمية، أي عدم معرفة القراءة
والكتابة، وَوُصمَ العصرُ الجاهليُّ بالتخلّف الحضاريّ، وأبناء العصر
بالتخلّف الثّقافيّ. ولكن النظرة الموضوعية أسهمتْ في إزالة الغبار الذي
علق بهذا المصطلح، وقد رأى فيليب حَتي أن الحقيقة خلاف ذلك. فالجاهلية في
المعنى الصحيح هي ذلك العصر ، الذي لم يكن لبلاد العرب فيه ناموس وازع، ولا
نبيٌّ ملهم، ولا كتاب منـزل . فمن الخطأ أن نصف بالجهل والهمجية هيئة
اجتماعية امتازت بما يمتاز به عرب الجنوب من ثقافة ، وحضارة قطعتْ في ميدان
التجارة والأشغال شوطاً بعيداً قبل الإسلام بقرون متطاولة ". وهكذا ينتهي
المؤلف إلى تفسير فكرة الجاهلية على أساس ديني محض، فالعرب لم يكونوا
أُميين، ووصْفهم بالجاهلية إنما هو تعبير عن أميتهم الدينية. وشبيه بذلك ما
ذهب إليه الدكتور ناصر الدين الأسد، حيث يقول نافياً تجهيل الجاهلية :" إن
حياة العرب في الجاهلية – فيما بدا لنا- بعيدة كل البعد عما يتوهمه بعض
الواهمين ، أو يقع فيه بعض المتسرعين الذين لا يتوقفون، ولا يتثبتون،
فيذهبون إلى أن عرب الجاهلية لم يكونوا سوى قوم بدائيين، يحيون حياة بدائية
في معزل عن غيرهم من أمم الأرض… ونذهب إلى أن عرب الجاهلية الأخيرة كانوا
من الحضارة بمنزلة لا سبيل إلى تجاوزها ، ولا مزيد عليها لمستزيد…..
ومن
الباحثين من ذهب إلى أن كلمة الجاهلية أُطلقتْ على هذا العصر ، ليست مشتقة
من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، وإنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه
والغضب ، والنّزق، فالكلمة إذن تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم،
ومن هذا قولُ الشنفرى الأزدي في لاميته:
ولا تزدهي الأجهالُ حِلْمي ولا أُرى سؤولاً بأعقاب الأقاويل أنمل
والى هذا المعنى يذهب عمرو بن كلثوم في معلقته إلى القول:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
بُغاةً ظالمين وما ظُلمْنا ولكنّـا سنبـدأ ظالمينـا
وواضح من هذه الأقوال أن الجهل هنا يُقصد به الحمقُ والسّفهُ ، وعدمُ ضبط النفس ، وفقدانُ سيطرة العقل ، وعدمُ السلوك الحكيم.
ولكن
ينبغي أن ننبه إلى أن هذا لم يكن حال القوم في مجموعهم، ولم يكن كل من عاش
في ذلك العصر متصفاً بهذه الصفات التي تتنافى مع العقل والحكمة، والاتزان،
والروية . فقد كان هناك أفراد اشتهروا بالعقل السديد ،والرأي الصائب،
وبُعْدِ النظر، كزهير بن أبى سلمى، وأوس بن حجر، وعبيد بن الأبرص، والحارث
بن عوف، وهرم بن سنان ، وقيس بن عاصم ، والحارث بن عباد، وعامر بن الظرب
العدواني ، والربيع بن زياد العبسي. وكانت سمتهم الظاهرة الحكمة ، حتى أن
العرب اتخذوا من أولئك العقلاء حكاماً ، يستشيرونهم في شؤونهم ، ويحكمونهم
في دمائهم ومواريثهم، اذكرُ منهم : اكثم بن صيفي ، وضمرة بن ضمرة النهشلي،
وربيعة بن مخاشن، وحاجب بن زراة . والأولى أن تكون كلمة الجاهلية قد
أُطلقتْ - حين أطلقت - لتدل على شيوع عبادة الأوثان بينهم، فلا شك أن من
بين العرب من كان يركع لصنم، أو ينحر لنصب، أو يتمسح بوثن، تقرباً لله
وزلفى. فالجاهلية مصطلح إسلامي يشير إلى أن العرب قبل الإسلام لم تكن ناعمة
بزمن الإسلام، وإشراق تعاليمه، وليس ثمة ما يُسوّغ انصراف مصطلح الجاهلية
إلى توحّش العرب ، وجهلهم بعلوم زمانهم.
ويمكن ردّ التطرف ضد العرب قبل الإسلام ، ونعتهم بالتوحش ، والجهل المطبق إلى ثلاثة أسباب :
الأول
: دينيّ ، ويتضح من خلال الحرص على تبيان أثر الإسلام في المجتمع العربي ،
وكأنّ الإسلام قد خلق هؤلاء الذين آمنوا خلقاً جديداً ،لم يكونوا قبله
شيئاً يذكر .
الثّاني: شعوبي، ومن المعلوم أن الشعوبية تنوء بكراهية
العرب، فلم تتركْ عادة قبيحة ، إلا وألصقتْها بالعرب، إذ لم يرُق لهم كونُ
العرب أمةً تسعى للمعرفة والخير.
الثالث : المستشرقون ، وإذا كان بعضهم –
ممن اتسم سلوكه بالموضوعية، والأمانة العلمية – قد أفاد مكتبة العصر
الجاهلي الأدبية ، سواء أكان ذلك بالأبحاث ، أو تحقيق بعض دواوين الشعراء ،
فإن دراسات بعضهم من أمثال مرجوليوث ،ورينان وأوليري ، " قد أساؤوا إلى
العرب وأدبهم وحضارتهم وعقليتهم " إساءة متعمدة فقد صدروا – فيما كتبوا –
عن روح عنصرية يبرأ منها العلم
صورة موهومة شائعة عن حياة العرب قبل الإسلام
شرّ ما تُصابُ به الشّعوبُ ، أن يتحرّى القائمون على ثقافتها مرضاة العوام، بكل ما يسخط الحق ، ويمسخ التاريخ.
يكتب
الكاتبون كتباً ومقالات ، ويتحدث الواعظون في مجالسَ وندواتٍ، فلا يكون
لهؤلاء ولا لأولئك حديثٌ أحبّ إليهم ، ولا أرضى لعواطفهم من أن يخلعوا على
الأمة العربية في عصر ما قبل الإسلام كلّ ما يضع من أحساب العرب، ويغضّ من
أقدارهم، ويرمي بهم في مطارح الرذيلة، وكأن الإسلام قد خلق الذين أيدوا
رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خلقاً جديداً ، لم يكونوا قبله شيئاً يذكر
بفضل أو ينسب إلى كرم.
وحقيقة الأمر " أن الإسلام لا يمكن أن يكون شجرة
منبتة الأصل عن البيئة التي وجدت فيها، لا تمتّ بنسب إلى عقول العرب، وهذا
يخالف طبيعة الأشياء".
ويكفي للدّلالة على خُلق القوم قبل الإسلام ،
وعلى ما كانوا يتّصفون به من مُثُل عليا – ما قال الرسول- صلى الله عليه
وسلم- لأبي بكر :" يا أبا بكر ، أيّةُ أخلاق في الجاهلية هذه ، ما أشرفها !
بها يدفع الله عزّ وجلّ بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم".
وإذا أسبغ الرسول الكريم على العرب في جاهليتهم هذا الشرفَ، وأثنى عليهم،
فليس عجيباً أن يروى عن عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه- قولُه:" إني لأعلم
متى تهلك العرب، إذا جاوزوا الجاهلية فلم يأخذوا بأخلاقها ، وأدركوا
الإسلام فلم يَقُدْهُمُ الورع".
ولستُ أزعم أني سأفتح في هذا الكتاب فتوحاً في التاريخ والاجتماع، ولكني أرجو أن أكشف عن بعض الحقائق.
فقد
غبر الناس في وهم عجيب ، وتصوّر أعجب منه للحياة السابقة للإسلام. فعندهم
أن العرب قد جاءهم الإسلام ، وهم يعيشون عيش الجماعات البدائية ، التي تبرأ
حياتها من النظام، فهم في فرقة أبداً ، وفي حروب لا تنقطع، وليست حروبهم
في سبيل غاية سامية، وإنما هي غارات قبلية يشنها قويُّهم على ضعيفهم، وتقوم
فيها القبيلة للقبيلة، والطائفة للطائفة في جماعة لا تربط فيها بين الناس
إلا تلك الروابطُ الساذجةُ من القرابة أو النّسب، التي تقوم بين أعضاء
الأسرة، وأن هذه الروابطَ هي التي تنتهي عندها كلّ العلاقات، وتتكيف على
مقتضاها الفضائل والأخلاق.
وأول ما أحبّ أن أقولَه هو أن هذه الصورةَ
ليستْ صحيحة، وأن هذا الوهمَ خاطئ، فالعرب يوم جاءهم الإسلام لم تكن تنزل
من حياتهم تلك المنزلة الجسيمة هذه الدّواعي التافهة، والعرب لم يكونوا
يومئذ جماعة بدائية، يعيش أهلها عيْش السّائمة ، لا تحكمهم فيما بينهم إلا
تلك العلاقاتُ ،التي لا تسود الجماعاتِ إلا في الطّور الباكر من تاريخها.
وانك
ليسقط عندك هذا الوهمُ، إذا أنت نظرت فوجدت أن هذه الأمة التي تُصور لنا
هذا التصوير، هي نفسها التي تتحدث لغة تستطيع ، وأنت مطمئن تمام الاطمئنان،
أن تضعها في مقدمة اللغات القديمة والحديثة كلها ، سلامة ،واكتمالاً،
وجمالاً ، ووفاء ،وحيوية.
فهذه اللغة موزونة ، يعتمد اللفظ من ألفاظها
على بنية موسيقية سليمة … وما كذلك تكون لغات الأمم، إذا كانت عند بداية
تكونها الاجتماعي، وعلى عتبة التنبه العقلي والفكري. وإنما تكون عند هذه
المرتبة لغة قوم بعد أن تدور في آفاق واسعة من التعبير عن الحاجات والمشاعر
، وتمتد إلى أعماق بعيدة من التحضر لا يمكن أن تتهيأ لأمة من الأمم، إذا
كانت عند مطلع التكوين الاجتماعي والقومي. فاللغة العربية لا يمكن أن تكون
لغةَ قوم كانت تلك حالهم قبل الإسلام مباشرة.
وهذه الأمة نفسها هي الأمة
التي نشأ فيها الإسلام. والإسلام بوصفه نظاماً تشريعياً يراد به إلى تنظيم
الجماعة، تجري أحكامه على حال لا يمكن معها أن يقال عنه : إنّه نزل لتنظيم
جماعة بدائية، حياتها على تلك الصورة التي أطال المؤرخون والقصاصون الحديث
عنها، فالجماعة البشرية لا يمكن أن تنتقل طفرة من حالة الفوضى ، وعدم
الاستقرار والتفرق الذي يمت إلى شريعة الغاب إلى حالة من النظام المثالي
الذي لا يكاد يتصل به مثال . وقد تصور هذه النقلة وصيةُ أبي بكـر ( رضي
الله عنه ) لجند أسامةَ بن زيد في خروجهم إلى الشام ، بعد موت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فانها تصور قوانين حربهم، وقوانينَ عهدهم ، ومقدار ما
انتهوا إليه من سُمُوّ في إنسانية معاملتهم، ومن فهم للخلق العام. يقول أبو
بكر :" لا تخونوا ولا تغدروا ، ولا تغلّوا ، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا
طفلاً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً وتحرقوه ، ولا
تقطعوا شجرة مثمرة ".
وقد فعلوا ما أمرهم به أبو بكر ، لم يخرج منهم عن
ذلك خارج، على الرغم من ضخامة العدد، هذا القدر من الحضارة النفسية لا يمكن
إلا أن يكون في القوم عريقاً، وليس يمكن أن تنتقل إليه أمة بمجرد تغييرها
دينها، فالحضارة عبء يتناسب دائماً مع قدرة الأمة الناهضة به ، ومع عددها ،
والقدرة والعدد في هذا متلازمان لا يفترقان. فالأمة قد يزيد عددها، وتتأخر
قدراتها، فلا تستطيع النهوض بعبء وحضارة من الحضارات ، وقد تزيد قدرتها
ويقل عددها ، فيتأثر بذلك قدر سيرها بنوع من أنواع الحضارات.
والإسلام أول تشريع جعل المساواة الكاملة بين الناس في الحقوق نظاماً، وفرض هذا النظام واجباً على الدولة وعلى الأمة .
والإسلام
أول نظام جعل من حق المحكوم اختيار الحاكم، وقيّد الحاكم، وأطلق يد
الجماعة في التصرف بحكامها، باعتراف الحاكم نفسه، وخطبة أبي بكر بعد البيعة
مشهورة:أيها الناس قد وُلّيتُ عليكم ولست بخيركم ، فان أحسنت فأعينوني ،
وإن أسأت فقوموني … الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ، والقوي فيكم
ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه…. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتُ فلا
طاعة لي عليكم".
والإسلام أول تشريع انتهى إلى جعل سلامة الفرد من أي
لون ، ومن أي جنس – ما دام قد اعتنق الدين- أساس تكوين الجماعة.وإقامته
الفرد من غيره مقام المساواة المطردة، ووضعه موضع اللبنة المتميزة في بناء
الجماعة، أمران يكشفان عن إحساس فذّ بالكرامة الإنسانية، لا اعرف له نظيراً
في تاريخ الأمة.
ثم أن الإسلام ، مع هذا الإدراك الواضح لقيمة الفرد ، لم يغفل حق الجماعة ولم ينس كيان الأمة.
والأمة
في الإسلام وَحْدة حضارية تطوي كل جماعة ، تعتنق الإسلام، فهي في امتداد
أبدا ، ما امتد الدّين . وهذا الدّين لم ينـزل لجنس بعينه، ولم يبعث به
نبيه – صلى الله عليه وسلم- إلى بيئة محدودة ، وإنما انزل للناس كافة ،
وجعل الجهاد فيه فريضةً على كل من اعتنقه، ومعنى ذلك أنّه يرمي إلى تكوين
وحدة إنسانيةٍ عامة، تتحقق فيها تلك المُثُل الحضاريةُ التي رسمها لبنيه
جميعاً . وهو إحساس جديد بجماعة إنسانيةٍ تهضم الأجناس والألوان ، لم يسبق
إليه قبل الإسلام دين ، ولم تبلغ مداه حضارة، وهو أمانة يفرضها الدين على
معتنقيه، يؤدونها للإنسانية بثمن يدفعونه من دمائهم وحياتهم.
وقد تدعو
النِحْلَة، أو الهوى، أو الرأي إلى الاختلاف في تقويم الوسائل التي اصطنعت
لتحقيق هذه المثل عملياً في الحياة، ولكن الاختلاف في تقويم الغاية هنا عسف
وجَوْر . والاختلاف حول التطبيق لا يمكن أن يمتد إلى غير القول إنّ بلوغ
الإنسانية إلى هذه المرحلة نمو في تكوينها الجماعي والعقلي، وان الأمّة
التي طمحت إليه أمةٌ قد اتسعت آفاق تفكيرها اتساعاً ينبئ عن غير هذا
المفهوم الضيق لحياتها في فترة سبقت هذا العهد من تاريخها.
ومن سوء الحظ
أن هذه النظرة لم تجر على تاريخ العرب الجاهليين وحدهم، وعلى كل ما يمكن
أن يمتّ إلى حضارتهم بسبب ، ولكنها جاوزت ذلك كلّه إلى الجوْر على تشخيص
طبيعة الجنس السامي كله، إذ العربي هو الممثل الأول لهذا الجنس. فيقول
رينا: فالسامي لا يعرف من الواجبات إلا واجباته نحو نفسه. فطلبه الثأر ،
وسعيه إلى كل ما يمكن أن يعده حقا لنفسه ، يقع في عينيه موقع الالتزام. أما
أن تطلب إليه الوفاء بوعده، والعدل في أمر لا يعنيه أو يخصّه ، فانك تطلب
بذلك إليه المستحيل".
ولو رجع رينان إلى نفسه ، والى بعض ما قرأ عن
العرب في جاهليتهم، لوجد فيما قرأ عن نوادر البطولة الخلقية في الجاهلية ما
لا يدع مجالاً لتصور هذا العربي الأناني مثلاً لكل عربي ، ثم لكل سامي.
فقصة كعب بن مامة الايادي الذي آثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري، فمات عطشاً ، فضرب به المثل في الوفاء.
وقصص
الوفاء التي لا تعد في الجاهلية ، وما أُثر عن الجود في العرب، وحق الضيف،
وحق الجوار، وغير هذا كثير يشهد بان رينان لم يكن ينظر إلى الوقائع قدر ما
كان يستجيب لعصبية خاصة، يبرأُ منْها العلم.
ولعل تلك النظرة الجريئة
على الجاهلية،التي خيل لقوم أنّهم سيرفعون بها قدر الإسلام فأساؤوا، كانت
سبباً من الأسباب التي أغرت رينان بترك الأخبار المتناقلة عن العرب قبل
الإسلام، والاعتماد على تصوير خاطئ لها، لم ينقله عن وقائعها المباشرة.
ولقد
أثر عن العرب ، أنّهم كانوا قوماً يعيشون على الرعي، وينتقلون انتجاعاً
للكلأ ، فهم رعاة قبل كل شيء. وتركَ هذا المفهومُ لقوام الحياة العربية قبل
الإسلام ظلالاً على تفسير كل شيء يمتّ إلى الحياة العربية بسبب.
وهو
زعم خاطئ ، إذ أن الرعي لم يكن العمل الأساسي، ولا المورد الأول لحياة سكان
الجزيرة قبل الإسلام، وإنما كان عملاً جانبياً ضئيلاً جداً بالقياس إلى
مصدر الثروة العربية، التي قامت عليها الحياة الجاهلية كلها ، وحضارة العرب
التي سبقت الإسلامَ في الأزمنة السحيقة والقريبة، وذلك المورد هو التجارة .
ونظّمتْ طرق القوافل التجارية ، ووضعتْ لها الأنظمة الصارمة لحراستها،
وحمايتها، وضمان سلامة بلوغها إلى غايتها ، وفُرضت العقوباتُ الرادعةُ لكل
من تجرأ على تهديد أمْن هذه الوسيلة الحيوية لأهل الجزيرة.
وتبلّرت عن هذا النشاط الاقتصادي قيمٌ عليا ، ومُثُلٌ سامية منها: حقّ الجوار، وإكرامُ الضيف، وإغاثةُ الملهوف، والوفاءُ، وغيرُ ذلك.
وانتهى الأمر بالتجارة إلى رواج ، وتكدّستِ الثرواتُ، وتضخمتْ، بين أيدي كثير من القبائل.
صورة من المجتمع العربي الجاهلي
بعد البحث عن سياسة الجزيرة وأديانها بقي أن نتكلم عن الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية و وفيها مايلى
يتبع
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
و هو من مظاهر الحياة الأدبية والاجتماعية و الاقتصادية في العصر الجاهلي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
عرب الجاهلية
مدلول مصطلح الجاهلية :
ونحب
أن نصحح بعض المفاهيم الخاطئة عن هذا العصر ، فقد درج أكثر القدماء
والمحدثين على تفسير معنى الجاهلية بالأمية، أي عدم معرفة القراءة
والكتابة، وَوُصمَ العصرُ الجاهليُّ بالتخلّف الحضاريّ، وأبناء العصر
بالتخلّف الثّقافيّ. ولكن النظرة الموضوعية أسهمتْ في إزالة الغبار الذي
علق بهذا المصطلح، وقد رأى فيليب حَتي أن الحقيقة خلاف ذلك. فالجاهلية في
المعنى الصحيح هي ذلك العصر ، الذي لم يكن لبلاد العرب فيه ناموس وازع، ولا
نبيٌّ ملهم، ولا كتاب منـزل . فمن الخطأ أن نصف بالجهل والهمجية هيئة
اجتماعية امتازت بما يمتاز به عرب الجنوب من ثقافة ، وحضارة قطعتْ في ميدان
التجارة والأشغال شوطاً بعيداً قبل الإسلام بقرون متطاولة ". وهكذا ينتهي
المؤلف إلى تفسير فكرة الجاهلية على أساس ديني محض، فالعرب لم يكونوا
أُميين، ووصْفهم بالجاهلية إنما هو تعبير عن أميتهم الدينية. وشبيه بذلك ما
ذهب إليه الدكتور ناصر الدين الأسد، حيث يقول نافياً تجهيل الجاهلية :" إن
حياة العرب في الجاهلية – فيما بدا لنا- بعيدة كل البعد عما يتوهمه بعض
الواهمين ، أو يقع فيه بعض المتسرعين الذين لا يتوقفون، ولا يتثبتون،
فيذهبون إلى أن عرب الجاهلية لم يكونوا سوى قوم بدائيين، يحيون حياة بدائية
في معزل عن غيرهم من أمم الأرض… ونذهب إلى أن عرب الجاهلية الأخيرة كانوا
من الحضارة بمنزلة لا سبيل إلى تجاوزها ، ولا مزيد عليها لمستزيد…..
ومن
الباحثين من ذهب إلى أن كلمة الجاهلية أُطلقتْ على هذا العصر ، ليست مشتقة
من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، وإنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه
والغضب ، والنّزق، فالكلمة إذن تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم،
ومن هذا قولُ الشنفرى الأزدي في لاميته:
ولا تزدهي الأجهالُ حِلْمي ولا أُرى سؤولاً بأعقاب الأقاويل أنمل
والى هذا المعنى يذهب عمرو بن كلثوم في معلقته إلى القول:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
بُغاةً ظالمين وما ظُلمْنا ولكنّـا سنبـدأ ظالمينـا
وواضح من هذه الأقوال أن الجهل هنا يُقصد به الحمقُ والسّفهُ ، وعدمُ ضبط النفس ، وفقدانُ سيطرة العقل ، وعدمُ السلوك الحكيم.
ولكن
ينبغي أن ننبه إلى أن هذا لم يكن حال القوم في مجموعهم، ولم يكن كل من عاش
في ذلك العصر متصفاً بهذه الصفات التي تتنافى مع العقل والحكمة، والاتزان،
والروية . فقد كان هناك أفراد اشتهروا بالعقل السديد ،والرأي الصائب،
وبُعْدِ النظر، كزهير بن أبى سلمى، وأوس بن حجر، وعبيد بن الأبرص، والحارث
بن عوف، وهرم بن سنان ، وقيس بن عاصم ، والحارث بن عباد، وعامر بن الظرب
العدواني ، والربيع بن زياد العبسي. وكانت سمتهم الظاهرة الحكمة ، حتى أن
العرب اتخذوا من أولئك العقلاء حكاماً ، يستشيرونهم في شؤونهم ، ويحكمونهم
في دمائهم ومواريثهم، اذكرُ منهم : اكثم بن صيفي ، وضمرة بن ضمرة النهشلي،
وربيعة بن مخاشن، وحاجب بن زراة . والأولى أن تكون كلمة الجاهلية قد
أُطلقتْ - حين أطلقت - لتدل على شيوع عبادة الأوثان بينهم، فلا شك أن من
بين العرب من كان يركع لصنم، أو ينحر لنصب، أو يتمسح بوثن، تقرباً لله
وزلفى. فالجاهلية مصطلح إسلامي يشير إلى أن العرب قبل الإسلام لم تكن ناعمة
بزمن الإسلام، وإشراق تعاليمه، وليس ثمة ما يُسوّغ انصراف مصطلح الجاهلية
إلى توحّش العرب ، وجهلهم بعلوم زمانهم.
ويمكن ردّ التطرف ضد العرب قبل الإسلام ، ونعتهم بالتوحش ، والجهل المطبق إلى ثلاثة أسباب :
الأول
: دينيّ ، ويتضح من خلال الحرص على تبيان أثر الإسلام في المجتمع العربي ،
وكأنّ الإسلام قد خلق هؤلاء الذين آمنوا خلقاً جديداً ،لم يكونوا قبله
شيئاً يذكر .
الثّاني: شعوبي، ومن المعلوم أن الشعوبية تنوء بكراهية
العرب، فلم تتركْ عادة قبيحة ، إلا وألصقتْها بالعرب، إذ لم يرُق لهم كونُ
العرب أمةً تسعى للمعرفة والخير.
الثالث : المستشرقون ، وإذا كان بعضهم –
ممن اتسم سلوكه بالموضوعية، والأمانة العلمية – قد أفاد مكتبة العصر
الجاهلي الأدبية ، سواء أكان ذلك بالأبحاث ، أو تحقيق بعض دواوين الشعراء ،
فإن دراسات بعضهم من أمثال مرجوليوث ،ورينان وأوليري ، " قد أساؤوا إلى
العرب وأدبهم وحضارتهم وعقليتهم " إساءة متعمدة فقد صدروا – فيما كتبوا –
عن روح عنصرية يبرأ منها العلم
صورة موهومة شائعة عن حياة العرب قبل الإسلام
شرّ ما تُصابُ به الشّعوبُ ، أن يتحرّى القائمون على ثقافتها مرضاة العوام، بكل ما يسخط الحق ، ويمسخ التاريخ.
يكتب
الكاتبون كتباً ومقالات ، ويتحدث الواعظون في مجالسَ وندواتٍ، فلا يكون
لهؤلاء ولا لأولئك حديثٌ أحبّ إليهم ، ولا أرضى لعواطفهم من أن يخلعوا على
الأمة العربية في عصر ما قبل الإسلام كلّ ما يضع من أحساب العرب، ويغضّ من
أقدارهم، ويرمي بهم في مطارح الرذيلة، وكأن الإسلام قد خلق الذين أيدوا
رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خلقاً جديداً ، لم يكونوا قبله شيئاً يذكر
بفضل أو ينسب إلى كرم.
وحقيقة الأمر " أن الإسلام لا يمكن أن يكون شجرة
منبتة الأصل عن البيئة التي وجدت فيها، لا تمتّ بنسب إلى عقول العرب، وهذا
يخالف طبيعة الأشياء".
ويكفي للدّلالة على خُلق القوم قبل الإسلام ،
وعلى ما كانوا يتّصفون به من مُثُل عليا – ما قال الرسول- صلى الله عليه
وسلم- لأبي بكر :" يا أبا بكر ، أيّةُ أخلاق في الجاهلية هذه ، ما أشرفها !
بها يدفع الله عزّ وجلّ بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم".
وإذا أسبغ الرسول الكريم على العرب في جاهليتهم هذا الشرفَ، وأثنى عليهم،
فليس عجيباً أن يروى عن عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه- قولُه:" إني لأعلم
متى تهلك العرب، إذا جاوزوا الجاهلية فلم يأخذوا بأخلاقها ، وأدركوا
الإسلام فلم يَقُدْهُمُ الورع".
ولستُ أزعم أني سأفتح في هذا الكتاب فتوحاً في التاريخ والاجتماع، ولكني أرجو أن أكشف عن بعض الحقائق.
فقد
غبر الناس في وهم عجيب ، وتصوّر أعجب منه للحياة السابقة للإسلام. فعندهم
أن العرب قد جاءهم الإسلام ، وهم يعيشون عيش الجماعات البدائية ، التي تبرأ
حياتها من النظام، فهم في فرقة أبداً ، وفي حروب لا تنقطع، وليست حروبهم
في سبيل غاية سامية، وإنما هي غارات قبلية يشنها قويُّهم على ضعيفهم، وتقوم
فيها القبيلة للقبيلة، والطائفة للطائفة في جماعة لا تربط فيها بين الناس
إلا تلك الروابطُ الساذجةُ من القرابة أو النّسب، التي تقوم بين أعضاء
الأسرة، وأن هذه الروابطَ هي التي تنتهي عندها كلّ العلاقات، وتتكيف على
مقتضاها الفضائل والأخلاق.
وأول ما أحبّ أن أقولَه هو أن هذه الصورةَ
ليستْ صحيحة، وأن هذا الوهمَ خاطئ، فالعرب يوم جاءهم الإسلام لم تكن تنزل
من حياتهم تلك المنزلة الجسيمة هذه الدّواعي التافهة، والعرب لم يكونوا
يومئذ جماعة بدائية، يعيش أهلها عيْش السّائمة ، لا تحكمهم فيما بينهم إلا
تلك العلاقاتُ ،التي لا تسود الجماعاتِ إلا في الطّور الباكر من تاريخها.
وانك
ليسقط عندك هذا الوهمُ، إذا أنت نظرت فوجدت أن هذه الأمة التي تُصور لنا
هذا التصوير، هي نفسها التي تتحدث لغة تستطيع ، وأنت مطمئن تمام الاطمئنان،
أن تضعها في مقدمة اللغات القديمة والحديثة كلها ، سلامة ،واكتمالاً،
وجمالاً ، ووفاء ،وحيوية.
فهذه اللغة موزونة ، يعتمد اللفظ من ألفاظها
على بنية موسيقية سليمة … وما كذلك تكون لغات الأمم، إذا كانت عند بداية
تكونها الاجتماعي، وعلى عتبة التنبه العقلي والفكري. وإنما تكون عند هذه
المرتبة لغة قوم بعد أن تدور في آفاق واسعة من التعبير عن الحاجات والمشاعر
، وتمتد إلى أعماق بعيدة من التحضر لا يمكن أن تتهيأ لأمة من الأمم، إذا
كانت عند مطلع التكوين الاجتماعي والقومي. فاللغة العربية لا يمكن أن تكون
لغةَ قوم كانت تلك حالهم قبل الإسلام مباشرة.
وهذه الأمة نفسها هي الأمة
التي نشأ فيها الإسلام. والإسلام بوصفه نظاماً تشريعياً يراد به إلى تنظيم
الجماعة، تجري أحكامه على حال لا يمكن معها أن يقال عنه : إنّه نزل لتنظيم
جماعة بدائية، حياتها على تلك الصورة التي أطال المؤرخون والقصاصون الحديث
عنها، فالجماعة البشرية لا يمكن أن تنتقل طفرة من حالة الفوضى ، وعدم
الاستقرار والتفرق الذي يمت إلى شريعة الغاب إلى حالة من النظام المثالي
الذي لا يكاد يتصل به مثال . وقد تصور هذه النقلة وصيةُ أبي بكـر ( رضي
الله عنه ) لجند أسامةَ بن زيد في خروجهم إلى الشام ، بعد موت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فانها تصور قوانين حربهم، وقوانينَ عهدهم ، ومقدار ما
انتهوا إليه من سُمُوّ في إنسانية معاملتهم، ومن فهم للخلق العام. يقول أبو
بكر :" لا تخونوا ولا تغدروا ، ولا تغلّوا ، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا
طفلاً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً وتحرقوه ، ولا
تقطعوا شجرة مثمرة ".
وقد فعلوا ما أمرهم به أبو بكر ، لم يخرج منهم عن
ذلك خارج، على الرغم من ضخامة العدد، هذا القدر من الحضارة النفسية لا يمكن
إلا أن يكون في القوم عريقاً، وليس يمكن أن تنتقل إليه أمة بمجرد تغييرها
دينها، فالحضارة عبء يتناسب دائماً مع قدرة الأمة الناهضة به ، ومع عددها ،
والقدرة والعدد في هذا متلازمان لا يفترقان. فالأمة قد يزيد عددها، وتتأخر
قدراتها، فلا تستطيع النهوض بعبء وحضارة من الحضارات ، وقد تزيد قدرتها
ويقل عددها ، فيتأثر بذلك قدر سيرها بنوع من أنواع الحضارات.
والإسلام أول تشريع جعل المساواة الكاملة بين الناس في الحقوق نظاماً، وفرض هذا النظام واجباً على الدولة وعلى الأمة .
والإسلام
أول نظام جعل من حق المحكوم اختيار الحاكم، وقيّد الحاكم، وأطلق يد
الجماعة في التصرف بحكامها، باعتراف الحاكم نفسه، وخطبة أبي بكر بعد البيعة
مشهورة:أيها الناس قد وُلّيتُ عليكم ولست بخيركم ، فان أحسنت فأعينوني ،
وإن أسأت فقوموني … الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ، والقوي فيكم
ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه…. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتُ فلا
طاعة لي عليكم".
والإسلام أول تشريع انتهى إلى جعل سلامة الفرد من أي
لون ، ومن أي جنس – ما دام قد اعتنق الدين- أساس تكوين الجماعة.وإقامته
الفرد من غيره مقام المساواة المطردة، ووضعه موضع اللبنة المتميزة في بناء
الجماعة، أمران يكشفان عن إحساس فذّ بالكرامة الإنسانية، لا اعرف له نظيراً
في تاريخ الأمة.
ثم أن الإسلام ، مع هذا الإدراك الواضح لقيمة الفرد ، لم يغفل حق الجماعة ولم ينس كيان الأمة.
والأمة
في الإسلام وَحْدة حضارية تطوي كل جماعة ، تعتنق الإسلام، فهي في امتداد
أبدا ، ما امتد الدّين . وهذا الدّين لم ينـزل لجنس بعينه، ولم يبعث به
نبيه – صلى الله عليه وسلم- إلى بيئة محدودة ، وإنما انزل للناس كافة ،
وجعل الجهاد فيه فريضةً على كل من اعتنقه، ومعنى ذلك أنّه يرمي إلى تكوين
وحدة إنسانيةٍ عامة، تتحقق فيها تلك المُثُل الحضاريةُ التي رسمها لبنيه
جميعاً . وهو إحساس جديد بجماعة إنسانيةٍ تهضم الأجناس والألوان ، لم يسبق
إليه قبل الإسلام دين ، ولم تبلغ مداه حضارة، وهو أمانة يفرضها الدين على
معتنقيه، يؤدونها للإنسانية بثمن يدفعونه من دمائهم وحياتهم.
وقد تدعو
النِحْلَة، أو الهوى، أو الرأي إلى الاختلاف في تقويم الوسائل التي اصطنعت
لتحقيق هذه المثل عملياً في الحياة، ولكن الاختلاف في تقويم الغاية هنا عسف
وجَوْر . والاختلاف حول التطبيق لا يمكن أن يمتد إلى غير القول إنّ بلوغ
الإنسانية إلى هذه المرحلة نمو في تكوينها الجماعي والعقلي، وان الأمّة
التي طمحت إليه أمةٌ قد اتسعت آفاق تفكيرها اتساعاً ينبئ عن غير هذا
المفهوم الضيق لحياتها في فترة سبقت هذا العهد من تاريخها.
ومن سوء الحظ
أن هذه النظرة لم تجر على تاريخ العرب الجاهليين وحدهم، وعلى كل ما يمكن
أن يمتّ إلى حضارتهم بسبب ، ولكنها جاوزت ذلك كلّه إلى الجوْر على تشخيص
طبيعة الجنس السامي كله، إذ العربي هو الممثل الأول لهذا الجنس. فيقول
رينا: فالسامي لا يعرف من الواجبات إلا واجباته نحو نفسه. فطلبه الثأر ،
وسعيه إلى كل ما يمكن أن يعده حقا لنفسه ، يقع في عينيه موقع الالتزام. أما
أن تطلب إليه الوفاء بوعده، والعدل في أمر لا يعنيه أو يخصّه ، فانك تطلب
بذلك إليه المستحيل".
ولو رجع رينان إلى نفسه ، والى بعض ما قرأ عن
العرب في جاهليتهم، لوجد فيما قرأ عن نوادر البطولة الخلقية في الجاهلية ما
لا يدع مجالاً لتصور هذا العربي الأناني مثلاً لكل عربي ، ثم لكل سامي.
فقصة كعب بن مامة الايادي الذي آثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري، فمات عطشاً ، فضرب به المثل في الوفاء.
وقصص
الوفاء التي لا تعد في الجاهلية ، وما أُثر عن الجود في العرب، وحق الضيف،
وحق الجوار، وغير هذا كثير يشهد بان رينان لم يكن ينظر إلى الوقائع قدر ما
كان يستجيب لعصبية خاصة، يبرأُ منْها العلم.
ولعل تلك النظرة الجريئة
على الجاهلية،التي خيل لقوم أنّهم سيرفعون بها قدر الإسلام فأساؤوا، كانت
سبباً من الأسباب التي أغرت رينان بترك الأخبار المتناقلة عن العرب قبل
الإسلام، والاعتماد على تصوير خاطئ لها، لم ينقله عن وقائعها المباشرة.
ولقد
أثر عن العرب ، أنّهم كانوا قوماً يعيشون على الرعي، وينتقلون انتجاعاً
للكلأ ، فهم رعاة قبل كل شيء. وتركَ هذا المفهومُ لقوام الحياة العربية قبل
الإسلام ظلالاً على تفسير كل شيء يمتّ إلى الحياة العربية بسبب.
وهو
زعم خاطئ ، إذ أن الرعي لم يكن العمل الأساسي، ولا المورد الأول لحياة سكان
الجزيرة قبل الإسلام، وإنما كان عملاً جانبياً ضئيلاً جداً بالقياس إلى
مصدر الثروة العربية، التي قامت عليها الحياة الجاهلية كلها ، وحضارة العرب
التي سبقت الإسلامَ في الأزمنة السحيقة والقريبة، وذلك المورد هو التجارة .
ونظّمتْ طرق القوافل التجارية ، ووضعتْ لها الأنظمة الصارمة لحراستها،
وحمايتها، وضمان سلامة بلوغها إلى غايتها ، وفُرضت العقوباتُ الرادعةُ لكل
من تجرأ على تهديد أمْن هذه الوسيلة الحيوية لأهل الجزيرة.
وتبلّرت عن هذا النشاط الاقتصادي قيمٌ عليا ، ومُثُلٌ سامية منها: حقّ الجوار، وإكرامُ الضيف، وإغاثةُ الملهوف، والوفاءُ، وغيرُ ذلك.
وانتهى الأمر بالتجارة إلى رواج ، وتكدّستِ الثرواتُ، وتضخمتْ، بين أيدي كثير من القبائل.
صورة من المجتمع العربي الجاهلي
بعد البحث عن سياسة الجزيرة وأديانها بقي أن نتكلم عن الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية و وفيها مايلى
يتبع
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]