عقوبة الإعدام .. رؤية إسلامية
* مقدمة :
العقوبة لغة هي من العقاب ، والمعاقبة أن تجزي المرء بما فعل سواء ، والإسم العقوبة ، وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا أخذه به ، وتعقّبت الرجل إذ أخذته بذنبه (1) .
العقوبة إصطلاحا : تعددت التعريفات الإصلاحية للعقوبة فمنهم من عرّفها بأنها الألم الذي يلحق الإنسان مستحقا على الجناية (2)، فالعقوبة تكون على فعل محرّم أو ترك واجب أو فعل مكروه (3) . وقد ورد في التعريف الإسلامي للعقوبة "أنها زواجر قبل الفعل جوابر بعده" ، فأما كونها زواجر فلأنها تزجر لقسوتها من يفكر بارتكاب المخالفة وتنذره بعاقبة فعله ، فهي زاجرة رادعة ، وأما كونها جوابر فلأن العقوبة المعجلة في الدنيا تجبر أي تلغي العقوبة في الآخرة أي تسقطها ،لأن مقتضى الرحمة الإلهية أن من عذّب في الدنيا فقد نال جزاءه ، وذلك بشرط التوبة والإنابة والندم على ما اقترف .
وقد ورد في تعريف العلماء المعاصرين للعقوبة بأنها الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع (4) ، وأنها جزاء ينطوي على إيلام مقصود يقرره القانون ويوقعه القاضي باسم المجتمع على من تثبت مسؤوليته على الجريمة ويتناسب معها (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن منظور / لسان العرب / ج 1 ص 619
(2) الطحاوي / حاشية الطحاوي على الدر المختار / ج2 ص 388
(3) الماوردي / الأحكام السلطانية والولاية الدينية / ص 221
(4) عبد القادر عودة /التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي / ص609
(5) عمر السعيد رمضان / شرح قانون العقوبات القسم العام / ص 547 ،383 القاهرة
* فلسفة العقوبة في الإسلام :
يمتد تاريخ العقوبة بامتداد التاريخ البشري على وجه الأرض ، فمنذ وقوع الجريمة الأولى وهي قتل قابيل لأخيه هابيل تأسس مبدأ العقوبة ، وعوقب قابيل على جريمته .
وهكذا فإن الرسالات السماوية تضمّنت تشريعات وأحكام حددت بموجبها العقوبات المترتبة على من اقترف جرما أو ارتكب جناية ، ففي الشريعة اليهودية نصّت التوراة على عقوبات كثيرة بحق الجناة والمعتدين ، جاء في سفر التكوين الإصحاح (21 من 2 ):" من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا " (1).
ولا يكاد يخلو مجتمع قديما أو حديثا من شريعة ونظام يحدد بموجبه قانون العقوبات والقصاص المستحق لمن ارتكب جرما ، وهذا ما نلحظه في الشريعة الإسلامية من خلال الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }(2).
أما فلسفة العقوبة في الإسلام فإنها تقوم على مبدأ حفظ المصالح العامة والفردية في المجتمع وهي تستمد وجودها وشرعيتها من خلال النص القطعي الذي يبيّن كيفيتها وحدودها في الحدود والقصاص ويحدد المساحة التي يستطيع من خلالها الحاكم أو القاضي أن يجتهد في باب التعزيرات (3) .ففي جريمة السرقة نجد النص القرآني واضحا جليّا في تحديد عقوبة السارق أو السارقة ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (4) ) .
كما أن العقوبة في الإسلام شخصية وذلك بمعنى أنها لا تطال إلا مرتكب المخالفة وحده ولا تتعداه إلى غيره ، وذلك تحقيقا للعدالة التي على أساسها قام مبدأ العقوبة (كل نفس بما كسبت رهينة (5))
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (6) ) ، (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربّك بظلاّم للعبيد (7) ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوراة / العهد القديم
(2) سورة النحل / آية 126
(3) محمد شلتوت / الاسلام عقيدة وشريعة / ص 312
(4) سورة المائدة / آية 38
(5) سورة المدثر / آية 38
(6) سورة النجم /آية 39
(7) سورة فصلت /آية 46
كذلك فإن العقوبة في التشريع الجنائي الإسلامي عامة لا يستثنى منها أحد ، فلا ميزة لأي كان تعفيه من العقوبة المستحقة مهما عظم شأنه وارتفع مقامه ، وقد أرسى الرسول الأكرم (ص) هذا المبدأ بحديثه المشهور :"أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ."(1)).
وعندما يقرر الإسلام المساواة بين جميع الناس أمام القانون ، فإنه أيضا يساوي في تشريع العقوبة نفسها بما يتناسب مع حجم وطبيعة الجرم الذي اقترفه المستحق للعقوبة ، فمن العدالة أن تتساوى العقوبة مع الجريمة فلا يشعر المخالف بالمظلومية جراء قسوة العقوبة التي نزلت به قصاصا على مخالفة بسيطة ، ولا يشعر المعتدى عليه بأن حقه قد هضم وحرمته قد هتكت ، لأن العقوبة على الجاني لم تكن بالمستوى الذي يحقق له الإستيفاء أو تشعره بالرضا والتسليم .( وجزاء سيئة سيئة مثلها (2)).
(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون(3) ).
ولا بد من الإشارة إلى ان بعض الفلاسفة الذين عالجوا مسألة العقاب انطلقوا من فكرة الحرمان أساسا لكل عقوبة فقالوا : "إن الجرم الذي يرتكبه أحد الأشخاص يجلب له بعض المنفعة ، ولكي يشعر المجرم بتفاهته يجب أن يفرض عليه عقاب يحرمه من المنفعة التي حصل عليها بوسائل غير مشروعة ، وهذا الحرمان إما بتعذيبه وتحمله الآلام ، أو نزع جريمته وعدم تمكينه من الإستفادة منها " وهنا نجد أن الإنتقام الفردي هو الأساس لحق العقاب في المجتمعات الأولى ، ثم تقدمت المجتمعات وأصبحت فكرة الإنتقام العام (الحق العام ) في القوانين الوضعية بدل الإنتقام الفردي ، فهذه هي الفلسفة في العصور القديمة ، وفي القوانين الوضعية فهي إما أن تكون انتقاما فرديا وانتقاما من المجرم ، وإما أن تكون انتقاما عاما وهو الحق العام .
وأما في العصر الإسلامي فقد راعت العقوبات الإسلامية كلا الطرفين الحق الفردي والحق العام ووازنت بينهما ، فتغيرت من الإنتقام الفردي والعام الى العدل والحفاظ على الحق الفردي والعام بطريقة مختلفة كليا (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري / الجزء الرابع / ص 173
(2) سورة الشورى / آية 40
(3) سورة المائدة / آية 45
(4) حيدر البصري / العقوبة في التشريع الجنائي الإسلامي والوضعي / مجلة النبأ عدد 41
وفي المحصّلة فقد بيّن القرآن الكريم الفلسفة أو الحكمة التي تأسس عليها مبدأ العقوبة (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب (1) ) فالقصاص وإن كان في ظاهره قد يكون موتا لشخص المجرم ولكنه في الحقيقة يكون حياة لباقي المجتمع ، فإذا علم من أراد القتل أنه سوف يقتل إذا قتل إنسانا فإن ذلك سوف يدفعه إلى الإمتناع عن القتل خوفا من العقوبة التي ستناله ، وبذلك يحفظ حياته وحياة من كان يريد قتله (2) .
* عقوبة الإعدام :
التعريف اللغوي والإصطلاحي : تقدم فيما سبق التعريف اللغوي والإصطلاحي للعقوبة ، أما لفظة الإعدام فهي من العدم ، والعدم هو فقدان الشيء ، وتقول عدمت فلانا أفقده فقدانا ،أي غاب عنك بموت أو فقد(3) . والعدم يدل على ذهاب الشيء وأعدمه الله أي أماته .
والإعدام : يقال قضى القاضي بإعدام المجرم بإزهاق روحه قصاصا (4 ) في مجال العقوبة تعني أن المحكوم عليه بعد التنفيذ يصبح عدما لا وجود له .
أما في الإصطلاح فالإعدام هو إزهاق روح المحكوم عليه واستئصاله من المجتمع ، وهو سلب المحكوم عليه حقه في الحياة (5).
وكلمة الإعدام من الألفاظ المعاصرة وهي تعني إزهاق الروح ، فهي في الحقيقة تعبّر عن معنى القصاص في النفس والقتل العمد ،واستعمال الفقهاء القدامى لفظ القصاص والقتل واستعمال المحدثين لفظ الإعدام جاء بنفس المعنى ولا مشاحة في الإصطلاح ، إلا أنه يوجد بعض الفروق بعمومها وخصوصها ، وفي النهاية تؤدي إلى معنى إزهاق الروح (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / آية 179
(2) عبد الله العلي الركبان / القصاص في النفس / ص 19
(3) ابن منظور / لسان العرب / ج 12 ص 392
(4) محمد بن زكريا معجم مقاييس اللغة / ج1 ص 331
(5) محمود السقا / فلسفة عقوبة الإعدام بين النظرية والتطبيق / ص 17
(6) عقوبة الإعدام وموقف التشريع الجنائي الإسلامي منها/ وائل لطفي صالح عبدالله عامر
* تاريخ عقوبة الإعدام :
عرفت المجتمعات البشرية قديما وحديثا عقوبة الإعدام وتنوّعت الإجتهادات القانونية حول الجرائم الموجبة لهذه العقوبة ، ففي بعض الدول يعتبر القتل والتجسس والخيانة موجبا لهذه العقوبة ، كما تعتبر الجرائم الجنسية كالزنا والإغتصاب واللواط جرائم مستوجبة للإعدام ، وفي بعض الدول يعتبر الاتجار بالبشر أو تجارة المخدرات من الجرائم التي يعاقب عليها بإعدام مرتكبها . من هنا فإن عقوبة الإعدام كانت معروفة في الشرائع الأرضية كشريعة حمورابي وفي الشرائع السماوية كالشريعة اليهودية قبل الإسلام ، ونجد عقوبة الإعدام مدرجة في أغلب القوانين الوضعية للدول سواء منها من ألغت عقوبة الإعدام أو من أبقت عليها ، فالإعدام يطبق في كثير من الدول استنادا إلى قوانين مدنية وضعية لا علاقة لها بالاسلام تشريعا أوالتزاما ومن هذه الدول : أفغانستان وأنتيغا وبربودا وجزر البهاما وبنغلادش وبربادوس وبيلاروسيا وبليز وبتسوانا وبوروندي والكاميرون وتشاد والصين وجمهورية الكونغو (الديمقراطية) وكوبا ودومينيكا وغينيا الاستوائية وإثيوبيا وغواتيمالا وغينيا وغيانا والهند وإندونيسيا وجامايكا واليابان وكوريا (الشمالية) ولبنان وليسوتو وماليزيا ومنغوليا ونيجيريا وسانت كريستوفر ونفيس وسانت لوسيا وسانت فينسنت وغرانادين وسيراليون وسنغافورة والصومال والسودان وسورية وتايوان وتايلاند وترينيداد وتوباغو وأوغندا والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وأوزباكستان وفيتنام واليمن وزيمبابوي (1) .
* عقوبة الإعدام في الإسلام :
_ مشروعية عقوبة الإعدام : تستمد عقوبة الإعدام مشروعيتها من خلال النصوص والأدلة القطعية وعلى رأسها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وقد استدل على مشروعيتها بقوله تعالى :{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْن وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (2) }
ودلالة الآية واضحة فالله تعالى كتب بمعنى قضى وفرض وألزم ، ومقتضى العبودية الإلتزام بما أمر الله والإمتثال لحكمه أمرا ونهيا والتزاما وتعبّدا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرصد العربي لمناهضة عقوبة الإعدام / دراسات واحصائيات
(2) سورة المائدة / آية 45
_ الحكمة من عقوبة الإعدام في الشريعة الإسلامية : يقول الله تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (1) }
لقد كرّم الله الإنسان وفضّله على جميع مخلوقاته وجعل حرمته أعظم من حرمة الكعبة الشريفة فالإنسان عند خالقه محترم الدم والمال والعرض ، وهذه الحرمات لا يجوز التعدّي عليها أو التفريط بها يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) :" قال الله عز وجل: (ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن (2) ) ، فمن خلال هذه المكانة وباعتبار الحدود التي رسمها الله تعالى فإنّ الإعتداء على النفس البشرية يعتبر من أعظم الكبائر ، وعليه فإنّ من تسوّل له نفسه الإستخفاف بحياة البشر وإزهاق أرواحهم عمدا وظلما فلا بدّ أن يرتقب العقوبة الرادعة الزاجرة التي لا تهادن المجرم ولا تمرر جريمته كأنّ شيئا لم يكن ، ولذا فإن الإسلام يرى أن تشديد العقوبة أمر ضروري حفاظا على السلامة الإجتماعية العامة ، وبترا لكل يد آثمة ونفس مستهترة تعيث في المجتمع الآمن قتلا وفسادا وانحرافا ، ولذا فإن حفظ الأمن الإجتماعي قد يتوقف في كثير من الأحيان على تطهير المجتمع من أصحاب الأنفس الشريرة التي تميل إلى الظلم والإعتداء ، فكما أن الطبيب قد يحكم بضرورة بتر عضو من الأعضاء حفاظا على سلامة المريض وإبقاء على حياته ، وهكذا فإن الإسلام يرى أن الصالح العام يقضي بتطهير المجتمع من القتلة والمجرمين والعابثين حفاظا على أمن المجتمع وكرامة الناس الآمنين ، كذلك فإن في عقوبة الإعدام للقاتل صيانة لحقوق المقتول وحفظا لحقه وكرامة دمه المسفوح وتهدئة لخواطر أولياء المقتول وامتصاصا لنقمتهم ودرءا لتوسع دائرة القتل والثأر، وقد أشار القرآن الكريم لهذا الأمر المهم {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (3) } .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة / آية 32
(2) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر / ج2 ص 208
(3) سورة الإسراء / آية 33
وتنبغي الإشارة إلى أن الإسلام بتشريعه لعقوبة الإعدام فإنه ينظر بمنظارين أساسيين الأول دنيوي والثاني أخروي وهذا بخلاف الأنظمة الوضعية التي لا ترى في مبدأ العقوبة إلا وجها دنيويا بحتا ، وبناء عليه فقد تقدّم في التعريف الإسلامي للعقوبات بأنها زواجر وجوابر ومعنى هذا أن عقوبة الإعدام وإن كانت إلغاء لحق الجاني في الحياة الدنيا فإنها من منظور رباني إسلامي تطهيرا له وتخليصا من عقوبات الآخرة وذلك بشرط التوبة النصوح الصادقة .
* الضوابط الإسلامية المعتبرة في عقوبة الإعدام :
أولا : الأهلية الجنائية : وهي أن يتحمّل الإنسان نتائج الأفعال المحرّمة التي يأتيها مختارا وهو مدرك لمعانيها ونتائجها ، فمن عمل عملا محرّما وهو مكره أو مغمى عليه فإنه لا يتحمّل مسؤولية فعله جنائيا كذلك فإن من عمل عملاً محرما ولكن لا يدرك معناه كالطفل والمجنون ، فإنه لا يسأل عنه لأنه غير مدرك له (1 ) .
ثانيا : إثبات الجريمة لثبوت العقوبة : من الثابت قطعا أن التشريع الجنائي الإسلامي لا يحكم باستحقاق العقوبة على المتهم ما لم تثبت إدانته بالطرق القطعية المفيدة للعلم والإطمئنان ولهذ فإن الحدود في الإسلام تدرأ عند عدم اكتمال الأدلة وكفايتها وقد ورد عن الرسول الأكرم (ص) :" ادرأوا الحدود بالشبهات )2) ". ففي تهمة القتل لا بد من إثبات الجريمة لثبوت العقوبة ومن طرق الإثبات :
1ـ الإقرار: ويعتبر في المقر البلوغ وكمال العقل والإختيار (3) .
2ـ البينة : وهي أن يشهد رجلان بالغان عاقلان عادلان بالقتل ، ويعتبر في الشهادة على القتل أن تكون عن حسّ أو ما يقرب منه وإلا فلا تقبل ، كما يعتبر في قبول شهادة الشاهدين توارد شهادتهما على أمر واحد فلو اختلفا في ذلك لم تقبل كما إذا شهد أحدهما أنه قتل في الليل وشهد الآخر أنه قتل في النهار ،أو شهد أحدهما أنه قتله في مكان وشهد الآخر أنه قتله في مكان آخر (4) .
ثالثا : التخيير في القتل العمدي : إن التشريع الإسلامي يعتبر أنه من حق أولياء المقتول الإقتصاص من القاتل في جريمة القتل العمدي ، ومقتضى الإقتصاص العادل وبناء على شخصية العقوبة فإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عودة / التشريع الجنائي الإسلامي / ص : 392
(2) سنن الترمذي / 33/ 4 طبعة الحلبي
(3) الخوئي / مباني تكملة المنهاج / ج 2 ص 91
(4) الخوئي مباني تكملة المنهاج ج2 / ص 96
الحاكم الشرعي وحفظا لحق أولياء الدم ينفذ عقوبة الإعدام بالقاتل ، ولكن لو أن أولياء الدم تنازلوا عن
مطلبهم بقتل القاتل ورضوا بالتعويض المالي الذي نصّت عليه الشريعة حكما بديلا عن الإعدام على نحو التخيير، وهو ما يسمونه بالمصطلح الفقهي الديّة فإن عقوبة الإعدام تسقط في هذه الحالة ، هذا إذا كانت العقوبة قصاصا ، أما عقوبة الإعدام في الحدود فلا مجال لسقوطها لأنها حقوق الله المفترضة ولا يجوز للحاكم تضييعها أو التهاون بها ، ومنها حدّ الحرابة على تفصيلات واردة في مطولات الحدود والقصاص قال تعالى : {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (1) }.
رابعا : كيفية تنفيذ عقوبة الإعدام : إنطلاقا من اعتبار عقوبة الإعدام قصاصا عادلا مستوجبا لتحقيق الإنصاف في المجتمع ، وزاجرا عن التهاون والإستخفاف بأرواح الناس وكراماتهم ، ولأن المشرّع لهذه العقوبة هو الله الخالق العليم بمصالح عباده وهو الرحيم بهم ، ولأن إعدام الجاني هو امتثال لأمر الله عز وجل وليس تشفّيا أو انتقاما بشريا ، فقد أكد التشريع الجنائي الإسلامي على أهمية اختيار الآلية التي يتم من خلالها تنفيذ العقوبة ، والإبتعاد عن الطرق التي يكون فيها الإعدام مسبوقا بالتعذيب أو ملحوقا بالمثلة ، وبالنظر إلى طرق تنفيذ عقوبة الإعدام المعتمدة في كثير من الدول فإن الإعدام رميا بالرصاص أكثر الطرق رحمة بالمحكوم عليه ، فلو أخذنا مثلا طريقة الإعدام شنقا فإن الموت لا يحصل إلا بعد مرور 4 إلى 20 دقيقة كما يفيد الدكتور محمد عبد العزيز سيف النصر (2) ،وهذا يعني أن المحكوم يتعرض لعملية تعذيب من جراء الإختناق التدريجي والكسور في الفقرات الثالثة والرابعة أو الرابعة والخامسة من فقرات الرقبة ، كذلك فإن الإعدام عن طريق الكرسي الكهربائي أو غرفة الغاز أو الحقن بالأبر المميتة كلها طرق لا تخلو من تعذيب سابق للموت .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة / آية 33
(2) محمد عبد العزيز سيف النصر / الطب الشرعي النظري والعملي / ص 279
وربما يشكل البعض على عقوبة الرجم التي يتبناها التشريع الإسلامي لأن الموت البطيء المسبوق بايلام وتعذيب ينطبق عليها ، إلا أن هذه الطريقة مخصوصة بارتكاب جريمة واحدة وهي زنا المحصن ولعل حكمة التشريع اقتضت تشديد العقوبة في هذا المجال حفظا لطهارة الأنساب وللعفة في العلاقات الجنسية وزجرا شديدا لمن تسوّل له نفسه ارتكاب هذا الفعل الجرمي ، إلا أن إثبات هذه الجريمة ليس بالأمر السهل بحيث يشترط في ثبوت الحد إقرار الزاني أو الزانية أو شهادة أربعة من الشهود العدول شهادة حسيّة هي الرؤية ولا يمكن إثبات هذه الجريمة إلا بهذين الطريقين .
* عقوبة الإعدام بين الإلغاء والإبقاء :
تنشط في السنوات الأخيرة الحركات والجمعيات المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام ، ففي العام 1996 أعلنت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن عمليات الإعدام العلنية منافية للكرامة الإنسانية،وفي عام 1998 بدأت منظمة العفو الدولية حملة كبرى متعلقة بحقوق الإنسان، سلّطت الضوء علىعقوبة الإعدام، وهذه الحملة هي الاحتفال بمرور خمسين عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
وقد تباهت المنظمة أنه في آذار 2000 بلغ عدد الدول التي ألغت هذه العقوبة في القانون أو في التطبيق 108 من أصل 195، والتحقت بدعوة اللجنة الدولية بعض الجمعيات في الدول العربية ومن بينها لبنان ففي سنة 1997 أطلقت هيئات "مدنية" لبنانية حملة وطنية ضد هذه العقوبة، وجرت تحركات ميدانية ضاغطة ونشاطات تثقيفية تتركز على إلغاء قانون صدر في لبنان عام 1994 قضى بمنع القاضي من تطبيق الأسباب التخفيفية في حالات القتل المقصود ،وكانت 58 هيئة مدنية وحزباً سياسياً قد طالبت في نيسان 2001 بإلغاء عقوبة الإعدام، وجرت تظاهرة أطفال في 31 أيار 2001 بهذا الخصوص، وقد عجّل وتيرة الأحداث رسمياً وإعلامياً رفض رئيس الحكومة اللبنانية السابق في آذار عام 2000 توقيع مرسوم إعدام، تطابقاً مع "قناعاته الشخصية". علماً أن المادة 549 من قانون العقوبات اللبناني تنصّ على " إنزال عقوبة الإعدام بمرتكبي جرائم القتل قصداً إذا ارتكبت عمداً أو تمهيداً لجناية أو جنحة أو تنفيذاً لها، أو تسهيلاً لفرار المحرضين أو الفاعلين أو المتدخلين، أو لوقوعها على أحد الأصول أو الفروع، أو لاقترانها بأعمال التعذيب والشراسة، أو لحصولها على الموظف، أو بسبب الإنتماء الطائفي، أو ثأراً لجناية ارتكبها غير المجنى عليه من طائفته أو من أقربائه أو محازبيه، أو باستعمال المواد المتفجرة، أو بقصد التهرب من جناية أو جنحة أو لإخفاء معالمها.(1)."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المادة 549 / الدستور اللبناني
ويمكن ربط هذه الحركات، بالعولمة عامة، والتحرك الأوروبي خاصة (المغاير لوجهة نظر الولايات المتحدة بهذا الشأن ( ، وقد ظهر ربط هذه التحركات بالدور الأوروبي خاصة، حين نُظمت ندوة في حزيران 2001 في بيروت ليوم واحد، دعت إليها مؤسسة فريدريخ ايبرت الألمانية وحركة حقوق الناس اللبنانية، صرح على أثرها ممثل المؤسسة الألمانية "سمير فرح": "لبنان يتطلّع إلى توقيع معاهدة شراكة مع الاتحاد الأوربي الذي ألغت جميع دوله هذه العقوبة" وقد تزامن هذا مع مؤتمر عقد في الشهر ذاته، في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، دُعي "أول مؤتمر عالمي لمناهضة عقوبة الإعدام" بمعاونة منظمات برلمانية أوروبية ومنظمات دولية (1 ) .
ولا بدّ من بيان بعض الأمور التي تتعلق بمطلب إلغاء عقوبة الإعدام من وجهة نظر إسلامية :
أولا : إنه من المفارقة حقا أن نسمع أصواتا أوروبية يتردد صداها في بلدان عربية تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام معتبرة أنها من أبشع الجرائم وأقساها بحق الإنسانية ، في الوقت الذي نشهد صمتا رسميا أوروبيا على جرائم الإعدام اليومية والإمتهان الصارخ لحقوق الإنسان الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل ، وما تمارسه القوات الإمريكية والبريطانية في العراق من ظلم وتنكيل وتعذيب للعراقيين ، وما تمارسه المنظمات التكفيرية من مجازر بحق الآمنين من الأطفال والنساء والشيوخ في العراق .
ثانيا : إن الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام رأفة بالإنسان وصونا لكرامته وإبقاء على حقه في الحياة هو إنفعال عاطفي أحادي الوجهة، إذ إن التعاطف مع الجاني إنما يكون على حساب الضحية وهدرا لحقوقها وتنازلا عن حقها في الحياة ، فكيف تستقيم الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام للقاتل الذي حرم إنسانا مثله من الحياة وحكم عليه بالموت مع المطالبة بحق الحياة لجميع البشر ؟!
ثالثا : إن التأثر بالممارسة الفعلية لتنفيذ عقوبة الإعدام في بعض الدول التي تعتمد أنظمة وضعية أو حتى تلك الدول التي تدعي الإحتكام للشريعة الإسلامية ، والذي لا يخلو من ظلم وتعسف و إصدار أحكام جائرة بحق الأبرياء ،أو الحكم بالإعدام لأسباب سياسية ،أو لجرائم لا تتناسب مع شدة العقوبة ،أو لإخضاع القوى المعارضة للحكم وغيرها من الأسباب ، كل ذلك لا يضير الشريعة الإسلامية السمحاء التي اعتبرت العقوبة شكلا من أشكال الإنصاف الفردي والإجتماعي، وراعت كما بينّا الكثير من العناوين والضوابط والشروط قبل الحكم بالإعدام وقبل تنفيذه ، والشريعة الإسلامية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدكتور أيمن القادري / إلى المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام / جريدة اللواء 2004
أرادت للمجتمعات البشرية أن تعيش الأمن الإجتماعي وأن تحفظ الحدود بين الناس بحيث لا يعتدي أحد على أحد ولا يستبد إنسان على إنسان مثله فيقتله ظلما ويلغي حقه الطبيعي في الحياة ، ولهذا نرى التشدد في قانون العقوبات الإسلامي الذي لا يهادن الجريمة أبدا وإنما يسعى لإقتلاعها من جذورها من خلال القصاص الذي يوجبه على القاتل والسارق والزاني وغيرهم من المجرمين .
رابعا : إن الهدف من تشديد العقوبة هو خلق حالة الردع والزجر بحيث من يفكر بارتكاب جريمة القتل عليه أن يجعل في حساباته أن النفس بالنفس ، وأن إزهاق روح فلان يقابله إزهاق روحه ، من هنا فإن عقوبة الإعدام من شأنها أن تقلل من جرائم القتل في المجتمعات التي تتبناها في تشريعاتها القانونية وهذا بخلاف المجتمعات التي لا تعتمد هذه العقوبة، بحيث نتسطيع إجراء مقارنة بين معدلات جرائم القتل في البلدان التي تطبق عقوبة الإعدام والبلدان التي لا تطبق هذه العقوبة .
خامسا : إن إدعاء الذين يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام بحجة أن الله هو واهب الحق بالحياة ولا يجوز لأحد سلب هذا الحق يمكن الرد عليه بطريقين :
أ ـ إن صريح الآيات القرآنية خير شاهد على أن الله تعالى أعطى الإذن بقتال وقتل الظالمين والمستكبرين والمعتدين على حياة الناس وحرياتهم وكراماتهم :
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (1) }
{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (2)}
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً(3) }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / آية 191
(2) سورة النساء / آية 89
(3) سورة النساء / آية 91
ب ـ إذا كان سلب الحياة ملكا لله وحده فكيف تؤمن الشعوب بحق الدفاع عن الأوطان والأنفس وكيف تشرع الحروب والمعارك ، ويصنف قتل الأعداء وردهم عن حدود الوطن نصرا ومجدا لا يجاريه شيء ؟ أليس هذا تناقضا مع أبسط القيم والمبادئ التي تؤمن بها الشعوب على امتداد التاريخ الإنساني؟
ثم إذا كان سلب حق الحياة لله وحده ولا يجوز لغير الله تعالى أن يسلب حق إنسان ما في الحياة فالأجدر بمن يطالبون بالغاء عقوبة الإعدام أن يطالبوا بحق الضحية لا أن يتعاطفوا مع الجلاد الذي امتدت يداه على حق غيره في الحياة .
سادسا : يقول دعاة إلغاء عقوبة الإعدام : من الصعب فهم الكيفية التي ساعدت بها عقوبة الإعدام على التئام جرح عائلة المقتول. في حين أنه بوسع الحكومات أن تقدم إلى الضحايا وذويهم الدعم المالي كي يتمكنوا من بناء حياتهم المحطمة !
إن تشريع عقوبة الإعدام في القانون الجنائي الإسلامي لم ينطلق من قاعدة التشفي والإنتقام من القاتل ولم يقصد بإعدام القاتل التئام جرح عائلة المقتول، لأن لا شيء يمكن أن يبلسم جراح الثكل الذي حلت بوالدي الضحية أو يزيل صفة اليتم والشعور بالضعف الذي حلت بأبنائه ، إن الحكمة من قتل القاتل والإقتصاص منه هي في اجتثاث النقمة العارمة والشعور بالغضب عند أهله وأوليائه والذي يدفعهم في كثير من الأحيان إلى طلب الثأر أو الإنتقام حتى ممن ليس له ذنب من أقرباء القاتل ، ولا يخفى أن عقلية الثأر لا زالت موجودة في بعض المجتمعات العربية التي لا زالت تحكمها الروح القبلية والعشائرية ، ثم أن الدعم المالي لذوي الضحايا الذي يتحدث عنه دعاة الإلغاء كبديل عن الإقتصاص العادل من القاتل الجاني لا يمكن فرضه كبديل لأنه لا يمكن للمال أن يعوّض الخسارة الكبرى والألم البالغ الذي حلّ بأولياء المقتول ، ولهذا نجد أنّ مبدأ القبول بالديّة في التشريع الإسلامي إنما كان على نحو التخيير وليس على نحو الإلزام لأن الله تعالى لا يمكن أن يكلّف نفسا بما لا يطاق وكثير من أولياء الدم يعتبرون التعويض المالي سواء كان من الحكومة أو من أولياء القاتل إنما هو صكّ بيع وإقرار ضمني باستيعاب الظلم الذي حلّ بقتيلهم .
* خاتمة :
تنبغي الإشارة في ختام هذا البحث إلى ضرورة التعرّف على الإسلام من خلال تشريعاته وأنظمته وقوانينه التي تكفل الحياة السعيدة الهانئة والآمنة لبني الإنسان والتي يمكن توصيفها بانها تسحب الذرائع التي يتدرع بها مرتكبو الجريمة ـ الذين لا يرفض الإسلام إعادة تاهيلهم وإصلاحهم ودمجهم في المجتمع من جديد ـ ومن خلال منظومة الأخلاق التي أريد لها ان تحكم تواصل الناس فيما بينهم فالمسلم اخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه (1 )، والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2) ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى (3) ، إن الرسالة الإسلامية الخاتمة تؤكد على مفهوم الأنسنة وتعتبره حاكما على كل العلاقات في المجتمع الإسلامي ، فهي تريد للإنسان المسلم أن يعيش سمو إنسانيته في تعاطيه مع اخيه المسلم في كل دوائر العلاقة بينهما ، وإذا عاش الإنسان عمق إنسانيته وصفاء فطرته وتأصّلت في داخله براعم الخير واجتثت نوازع الشر فإن الأمن الإجتماعي سوف يتعزز إلى أبعد الحدود وتصبح الجريمة حالة شاذة ونادرة في المجتمع ، ويتحول قانون العقوبات إلى مادة وقائية تحذيرية لا مساحة لها على أرض الواقع .
* مقدمة :
العقوبة لغة هي من العقاب ، والمعاقبة أن تجزي المرء بما فعل سواء ، والإسم العقوبة ، وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا أخذه به ، وتعقّبت الرجل إذ أخذته بذنبه (1) .
العقوبة إصطلاحا : تعددت التعريفات الإصلاحية للعقوبة فمنهم من عرّفها بأنها الألم الذي يلحق الإنسان مستحقا على الجناية (2)، فالعقوبة تكون على فعل محرّم أو ترك واجب أو فعل مكروه (3) . وقد ورد في التعريف الإسلامي للعقوبة "أنها زواجر قبل الفعل جوابر بعده" ، فأما كونها زواجر فلأنها تزجر لقسوتها من يفكر بارتكاب المخالفة وتنذره بعاقبة فعله ، فهي زاجرة رادعة ، وأما كونها جوابر فلأن العقوبة المعجلة في الدنيا تجبر أي تلغي العقوبة في الآخرة أي تسقطها ،لأن مقتضى الرحمة الإلهية أن من عذّب في الدنيا فقد نال جزاءه ، وذلك بشرط التوبة والإنابة والندم على ما اقترف .
وقد ورد في تعريف العلماء المعاصرين للعقوبة بأنها الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع (4) ، وأنها جزاء ينطوي على إيلام مقصود يقرره القانون ويوقعه القاضي باسم المجتمع على من تثبت مسؤوليته على الجريمة ويتناسب معها (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن منظور / لسان العرب / ج 1 ص 619
(2) الطحاوي / حاشية الطحاوي على الدر المختار / ج2 ص 388
(3) الماوردي / الأحكام السلطانية والولاية الدينية / ص 221
(4) عبد القادر عودة /التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي / ص609
(5) عمر السعيد رمضان / شرح قانون العقوبات القسم العام / ص 547 ،383 القاهرة
* فلسفة العقوبة في الإسلام :
يمتد تاريخ العقوبة بامتداد التاريخ البشري على وجه الأرض ، فمنذ وقوع الجريمة الأولى وهي قتل قابيل لأخيه هابيل تأسس مبدأ العقوبة ، وعوقب قابيل على جريمته .
وهكذا فإن الرسالات السماوية تضمّنت تشريعات وأحكام حددت بموجبها العقوبات المترتبة على من اقترف جرما أو ارتكب جناية ، ففي الشريعة اليهودية نصّت التوراة على عقوبات كثيرة بحق الجناة والمعتدين ، جاء في سفر التكوين الإصحاح (21 من 2 ):" من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا " (1).
ولا يكاد يخلو مجتمع قديما أو حديثا من شريعة ونظام يحدد بموجبه قانون العقوبات والقصاص المستحق لمن ارتكب جرما ، وهذا ما نلحظه في الشريعة الإسلامية من خلال الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }(2).
أما فلسفة العقوبة في الإسلام فإنها تقوم على مبدأ حفظ المصالح العامة والفردية في المجتمع وهي تستمد وجودها وشرعيتها من خلال النص القطعي الذي يبيّن كيفيتها وحدودها في الحدود والقصاص ويحدد المساحة التي يستطيع من خلالها الحاكم أو القاضي أن يجتهد في باب التعزيرات (3) .ففي جريمة السرقة نجد النص القرآني واضحا جليّا في تحديد عقوبة السارق أو السارقة ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (4) ) .
كما أن العقوبة في الإسلام شخصية وذلك بمعنى أنها لا تطال إلا مرتكب المخالفة وحده ولا تتعداه إلى غيره ، وذلك تحقيقا للعدالة التي على أساسها قام مبدأ العقوبة (كل نفس بما كسبت رهينة (5))
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (6) ) ، (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربّك بظلاّم للعبيد (7) ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوراة / العهد القديم
(2) سورة النحل / آية 126
(3) محمد شلتوت / الاسلام عقيدة وشريعة / ص 312
(4) سورة المائدة / آية 38
(5) سورة المدثر / آية 38
(6) سورة النجم /آية 39
(7) سورة فصلت /آية 46
كذلك فإن العقوبة في التشريع الجنائي الإسلامي عامة لا يستثنى منها أحد ، فلا ميزة لأي كان تعفيه من العقوبة المستحقة مهما عظم شأنه وارتفع مقامه ، وقد أرسى الرسول الأكرم (ص) هذا المبدأ بحديثه المشهور :"أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ."(1)).
وعندما يقرر الإسلام المساواة بين جميع الناس أمام القانون ، فإنه أيضا يساوي في تشريع العقوبة نفسها بما يتناسب مع حجم وطبيعة الجرم الذي اقترفه المستحق للعقوبة ، فمن العدالة أن تتساوى العقوبة مع الجريمة فلا يشعر المخالف بالمظلومية جراء قسوة العقوبة التي نزلت به قصاصا على مخالفة بسيطة ، ولا يشعر المعتدى عليه بأن حقه قد هضم وحرمته قد هتكت ، لأن العقوبة على الجاني لم تكن بالمستوى الذي يحقق له الإستيفاء أو تشعره بالرضا والتسليم .( وجزاء سيئة سيئة مثلها (2)).
(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون(3) ).
ولا بد من الإشارة إلى ان بعض الفلاسفة الذين عالجوا مسألة العقاب انطلقوا من فكرة الحرمان أساسا لكل عقوبة فقالوا : "إن الجرم الذي يرتكبه أحد الأشخاص يجلب له بعض المنفعة ، ولكي يشعر المجرم بتفاهته يجب أن يفرض عليه عقاب يحرمه من المنفعة التي حصل عليها بوسائل غير مشروعة ، وهذا الحرمان إما بتعذيبه وتحمله الآلام ، أو نزع جريمته وعدم تمكينه من الإستفادة منها " وهنا نجد أن الإنتقام الفردي هو الأساس لحق العقاب في المجتمعات الأولى ، ثم تقدمت المجتمعات وأصبحت فكرة الإنتقام العام (الحق العام ) في القوانين الوضعية بدل الإنتقام الفردي ، فهذه هي الفلسفة في العصور القديمة ، وفي القوانين الوضعية فهي إما أن تكون انتقاما فرديا وانتقاما من المجرم ، وإما أن تكون انتقاما عاما وهو الحق العام .
وأما في العصر الإسلامي فقد راعت العقوبات الإسلامية كلا الطرفين الحق الفردي والحق العام ووازنت بينهما ، فتغيرت من الإنتقام الفردي والعام الى العدل والحفاظ على الحق الفردي والعام بطريقة مختلفة كليا (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري / الجزء الرابع / ص 173
(2) سورة الشورى / آية 40
(3) سورة المائدة / آية 45
(4) حيدر البصري / العقوبة في التشريع الجنائي الإسلامي والوضعي / مجلة النبأ عدد 41
وفي المحصّلة فقد بيّن القرآن الكريم الفلسفة أو الحكمة التي تأسس عليها مبدأ العقوبة (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب (1) ) فالقصاص وإن كان في ظاهره قد يكون موتا لشخص المجرم ولكنه في الحقيقة يكون حياة لباقي المجتمع ، فإذا علم من أراد القتل أنه سوف يقتل إذا قتل إنسانا فإن ذلك سوف يدفعه إلى الإمتناع عن القتل خوفا من العقوبة التي ستناله ، وبذلك يحفظ حياته وحياة من كان يريد قتله (2) .
* عقوبة الإعدام :
التعريف اللغوي والإصطلاحي : تقدم فيما سبق التعريف اللغوي والإصطلاحي للعقوبة ، أما لفظة الإعدام فهي من العدم ، والعدم هو فقدان الشيء ، وتقول عدمت فلانا أفقده فقدانا ،أي غاب عنك بموت أو فقد(3) . والعدم يدل على ذهاب الشيء وأعدمه الله أي أماته .
والإعدام : يقال قضى القاضي بإعدام المجرم بإزهاق روحه قصاصا (4 ) في مجال العقوبة تعني أن المحكوم عليه بعد التنفيذ يصبح عدما لا وجود له .
أما في الإصطلاح فالإعدام هو إزهاق روح المحكوم عليه واستئصاله من المجتمع ، وهو سلب المحكوم عليه حقه في الحياة (5).
وكلمة الإعدام من الألفاظ المعاصرة وهي تعني إزهاق الروح ، فهي في الحقيقة تعبّر عن معنى القصاص في النفس والقتل العمد ،واستعمال الفقهاء القدامى لفظ القصاص والقتل واستعمال المحدثين لفظ الإعدام جاء بنفس المعنى ولا مشاحة في الإصطلاح ، إلا أنه يوجد بعض الفروق بعمومها وخصوصها ، وفي النهاية تؤدي إلى معنى إزهاق الروح (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / آية 179
(2) عبد الله العلي الركبان / القصاص في النفس / ص 19
(3) ابن منظور / لسان العرب / ج 12 ص 392
(4) محمد بن زكريا معجم مقاييس اللغة / ج1 ص 331
(5) محمود السقا / فلسفة عقوبة الإعدام بين النظرية والتطبيق / ص 17
(6) عقوبة الإعدام وموقف التشريع الجنائي الإسلامي منها/ وائل لطفي صالح عبدالله عامر
* تاريخ عقوبة الإعدام :
عرفت المجتمعات البشرية قديما وحديثا عقوبة الإعدام وتنوّعت الإجتهادات القانونية حول الجرائم الموجبة لهذه العقوبة ، ففي بعض الدول يعتبر القتل والتجسس والخيانة موجبا لهذه العقوبة ، كما تعتبر الجرائم الجنسية كالزنا والإغتصاب واللواط جرائم مستوجبة للإعدام ، وفي بعض الدول يعتبر الاتجار بالبشر أو تجارة المخدرات من الجرائم التي يعاقب عليها بإعدام مرتكبها . من هنا فإن عقوبة الإعدام كانت معروفة في الشرائع الأرضية كشريعة حمورابي وفي الشرائع السماوية كالشريعة اليهودية قبل الإسلام ، ونجد عقوبة الإعدام مدرجة في أغلب القوانين الوضعية للدول سواء منها من ألغت عقوبة الإعدام أو من أبقت عليها ، فالإعدام يطبق في كثير من الدول استنادا إلى قوانين مدنية وضعية لا علاقة لها بالاسلام تشريعا أوالتزاما ومن هذه الدول : أفغانستان وأنتيغا وبربودا وجزر البهاما وبنغلادش وبربادوس وبيلاروسيا وبليز وبتسوانا وبوروندي والكاميرون وتشاد والصين وجمهورية الكونغو (الديمقراطية) وكوبا ودومينيكا وغينيا الاستوائية وإثيوبيا وغواتيمالا وغينيا وغيانا والهند وإندونيسيا وجامايكا واليابان وكوريا (الشمالية) ولبنان وليسوتو وماليزيا ومنغوليا ونيجيريا وسانت كريستوفر ونفيس وسانت لوسيا وسانت فينسنت وغرانادين وسيراليون وسنغافورة والصومال والسودان وسورية وتايوان وتايلاند وترينيداد وتوباغو وأوغندا والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وأوزباكستان وفيتنام واليمن وزيمبابوي (1) .
* عقوبة الإعدام في الإسلام :
_ مشروعية عقوبة الإعدام : تستمد عقوبة الإعدام مشروعيتها من خلال النصوص والأدلة القطعية وعلى رأسها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وقد استدل على مشروعيتها بقوله تعالى :{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْن وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (2) }
ودلالة الآية واضحة فالله تعالى كتب بمعنى قضى وفرض وألزم ، ومقتضى العبودية الإلتزام بما أمر الله والإمتثال لحكمه أمرا ونهيا والتزاما وتعبّدا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرصد العربي لمناهضة عقوبة الإعدام / دراسات واحصائيات
(2) سورة المائدة / آية 45
_ الحكمة من عقوبة الإعدام في الشريعة الإسلامية : يقول الله تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (1) }
لقد كرّم الله الإنسان وفضّله على جميع مخلوقاته وجعل حرمته أعظم من حرمة الكعبة الشريفة فالإنسان عند خالقه محترم الدم والمال والعرض ، وهذه الحرمات لا يجوز التعدّي عليها أو التفريط بها يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) :" قال الله عز وجل: (ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن (2) ) ، فمن خلال هذه المكانة وباعتبار الحدود التي رسمها الله تعالى فإنّ الإعتداء على النفس البشرية يعتبر من أعظم الكبائر ، وعليه فإنّ من تسوّل له نفسه الإستخفاف بحياة البشر وإزهاق أرواحهم عمدا وظلما فلا بدّ أن يرتقب العقوبة الرادعة الزاجرة التي لا تهادن المجرم ولا تمرر جريمته كأنّ شيئا لم يكن ، ولذا فإن الإسلام يرى أن تشديد العقوبة أمر ضروري حفاظا على السلامة الإجتماعية العامة ، وبترا لكل يد آثمة ونفس مستهترة تعيث في المجتمع الآمن قتلا وفسادا وانحرافا ، ولذا فإن حفظ الأمن الإجتماعي قد يتوقف في كثير من الأحيان على تطهير المجتمع من أصحاب الأنفس الشريرة التي تميل إلى الظلم والإعتداء ، فكما أن الطبيب قد يحكم بضرورة بتر عضو من الأعضاء حفاظا على سلامة المريض وإبقاء على حياته ، وهكذا فإن الإسلام يرى أن الصالح العام يقضي بتطهير المجتمع من القتلة والمجرمين والعابثين حفاظا على أمن المجتمع وكرامة الناس الآمنين ، كذلك فإن في عقوبة الإعدام للقاتل صيانة لحقوق المقتول وحفظا لحقه وكرامة دمه المسفوح وتهدئة لخواطر أولياء المقتول وامتصاصا لنقمتهم ودرءا لتوسع دائرة القتل والثأر، وقد أشار القرآن الكريم لهذا الأمر المهم {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (3) } .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة / آية 32
(2) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر / ج2 ص 208
(3) سورة الإسراء / آية 33
وتنبغي الإشارة إلى أن الإسلام بتشريعه لعقوبة الإعدام فإنه ينظر بمنظارين أساسيين الأول دنيوي والثاني أخروي وهذا بخلاف الأنظمة الوضعية التي لا ترى في مبدأ العقوبة إلا وجها دنيويا بحتا ، وبناء عليه فقد تقدّم في التعريف الإسلامي للعقوبات بأنها زواجر وجوابر ومعنى هذا أن عقوبة الإعدام وإن كانت إلغاء لحق الجاني في الحياة الدنيا فإنها من منظور رباني إسلامي تطهيرا له وتخليصا من عقوبات الآخرة وذلك بشرط التوبة النصوح الصادقة .
* الضوابط الإسلامية المعتبرة في عقوبة الإعدام :
أولا : الأهلية الجنائية : وهي أن يتحمّل الإنسان نتائج الأفعال المحرّمة التي يأتيها مختارا وهو مدرك لمعانيها ونتائجها ، فمن عمل عملا محرّما وهو مكره أو مغمى عليه فإنه لا يتحمّل مسؤولية فعله جنائيا كذلك فإن من عمل عملاً محرما ولكن لا يدرك معناه كالطفل والمجنون ، فإنه لا يسأل عنه لأنه غير مدرك له (1 ) .
ثانيا : إثبات الجريمة لثبوت العقوبة : من الثابت قطعا أن التشريع الجنائي الإسلامي لا يحكم باستحقاق العقوبة على المتهم ما لم تثبت إدانته بالطرق القطعية المفيدة للعلم والإطمئنان ولهذ فإن الحدود في الإسلام تدرأ عند عدم اكتمال الأدلة وكفايتها وقد ورد عن الرسول الأكرم (ص) :" ادرأوا الحدود بالشبهات )2) ". ففي تهمة القتل لا بد من إثبات الجريمة لثبوت العقوبة ومن طرق الإثبات :
1ـ الإقرار: ويعتبر في المقر البلوغ وكمال العقل والإختيار (3) .
2ـ البينة : وهي أن يشهد رجلان بالغان عاقلان عادلان بالقتل ، ويعتبر في الشهادة على القتل أن تكون عن حسّ أو ما يقرب منه وإلا فلا تقبل ، كما يعتبر في قبول شهادة الشاهدين توارد شهادتهما على أمر واحد فلو اختلفا في ذلك لم تقبل كما إذا شهد أحدهما أنه قتل في الليل وشهد الآخر أنه قتل في النهار ،أو شهد أحدهما أنه قتله في مكان وشهد الآخر أنه قتله في مكان آخر (4) .
ثالثا : التخيير في القتل العمدي : إن التشريع الإسلامي يعتبر أنه من حق أولياء المقتول الإقتصاص من القاتل في جريمة القتل العمدي ، ومقتضى الإقتصاص العادل وبناء على شخصية العقوبة فإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عودة / التشريع الجنائي الإسلامي / ص : 392
(2) سنن الترمذي / 33/ 4 طبعة الحلبي
(3) الخوئي / مباني تكملة المنهاج / ج 2 ص 91
(4) الخوئي مباني تكملة المنهاج ج2 / ص 96
الحاكم الشرعي وحفظا لحق أولياء الدم ينفذ عقوبة الإعدام بالقاتل ، ولكن لو أن أولياء الدم تنازلوا عن
مطلبهم بقتل القاتل ورضوا بالتعويض المالي الذي نصّت عليه الشريعة حكما بديلا عن الإعدام على نحو التخيير، وهو ما يسمونه بالمصطلح الفقهي الديّة فإن عقوبة الإعدام تسقط في هذه الحالة ، هذا إذا كانت العقوبة قصاصا ، أما عقوبة الإعدام في الحدود فلا مجال لسقوطها لأنها حقوق الله المفترضة ولا يجوز للحاكم تضييعها أو التهاون بها ، ومنها حدّ الحرابة على تفصيلات واردة في مطولات الحدود والقصاص قال تعالى : {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (1) }.
رابعا : كيفية تنفيذ عقوبة الإعدام : إنطلاقا من اعتبار عقوبة الإعدام قصاصا عادلا مستوجبا لتحقيق الإنصاف في المجتمع ، وزاجرا عن التهاون والإستخفاف بأرواح الناس وكراماتهم ، ولأن المشرّع لهذه العقوبة هو الله الخالق العليم بمصالح عباده وهو الرحيم بهم ، ولأن إعدام الجاني هو امتثال لأمر الله عز وجل وليس تشفّيا أو انتقاما بشريا ، فقد أكد التشريع الجنائي الإسلامي على أهمية اختيار الآلية التي يتم من خلالها تنفيذ العقوبة ، والإبتعاد عن الطرق التي يكون فيها الإعدام مسبوقا بالتعذيب أو ملحوقا بالمثلة ، وبالنظر إلى طرق تنفيذ عقوبة الإعدام المعتمدة في كثير من الدول فإن الإعدام رميا بالرصاص أكثر الطرق رحمة بالمحكوم عليه ، فلو أخذنا مثلا طريقة الإعدام شنقا فإن الموت لا يحصل إلا بعد مرور 4 إلى 20 دقيقة كما يفيد الدكتور محمد عبد العزيز سيف النصر (2) ،وهذا يعني أن المحكوم يتعرض لعملية تعذيب من جراء الإختناق التدريجي والكسور في الفقرات الثالثة والرابعة أو الرابعة والخامسة من فقرات الرقبة ، كذلك فإن الإعدام عن طريق الكرسي الكهربائي أو غرفة الغاز أو الحقن بالأبر المميتة كلها طرق لا تخلو من تعذيب سابق للموت .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة / آية 33
(2) محمد عبد العزيز سيف النصر / الطب الشرعي النظري والعملي / ص 279
وربما يشكل البعض على عقوبة الرجم التي يتبناها التشريع الإسلامي لأن الموت البطيء المسبوق بايلام وتعذيب ينطبق عليها ، إلا أن هذه الطريقة مخصوصة بارتكاب جريمة واحدة وهي زنا المحصن ولعل حكمة التشريع اقتضت تشديد العقوبة في هذا المجال حفظا لطهارة الأنساب وللعفة في العلاقات الجنسية وزجرا شديدا لمن تسوّل له نفسه ارتكاب هذا الفعل الجرمي ، إلا أن إثبات هذه الجريمة ليس بالأمر السهل بحيث يشترط في ثبوت الحد إقرار الزاني أو الزانية أو شهادة أربعة من الشهود العدول شهادة حسيّة هي الرؤية ولا يمكن إثبات هذه الجريمة إلا بهذين الطريقين .
* عقوبة الإعدام بين الإلغاء والإبقاء :
تنشط في السنوات الأخيرة الحركات والجمعيات المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام ، ففي العام 1996 أعلنت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن عمليات الإعدام العلنية منافية للكرامة الإنسانية،وفي عام 1998 بدأت منظمة العفو الدولية حملة كبرى متعلقة بحقوق الإنسان، سلّطت الضوء علىعقوبة الإعدام، وهذه الحملة هي الاحتفال بمرور خمسين عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
وقد تباهت المنظمة أنه في آذار 2000 بلغ عدد الدول التي ألغت هذه العقوبة في القانون أو في التطبيق 108 من أصل 195، والتحقت بدعوة اللجنة الدولية بعض الجمعيات في الدول العربية ومن بينها لبنان ففي سنة 1997 أطلقت هيئات "مدنية" لبنانية حملة وطنية ضد هذه العقوبة، وجرت تحركات ميدانية ضاغطة ونشاطات تثقيفية تتركز على إلغاء قانون صدر في لبنان عام 1994 قضى بمنع القاضي من تطبيق الأسباب التخفيفية في حالات القتل المقصود ،وكانت 58 هيئة مدنية وحزباً سياسياً قد طالبت في نيسان 2001 بإلغاء عقوبة الإعدام، وجرت تظاهرة أطفال في 31 أيار 2001 بهذا الخصوص، وقد عجّل وتيرة الأحداث رسمياً وإعلامياً رفض رئيس الحكومة اللبنانية السابق في آذار عام 2000 توقيع مرسوم إعدام، تطابقاً مع "قناعاته الشخصية". علماً أن المادة 549 من قانون العقوبات اللبناني تنصّ على " إنزال عقوبة الإعدام بمرتكبي جرائم القتل قصداً إذا ارتكبت عمداً أو تمهيداً لجناية أو جنحة أو تنفيذاً لها، أو تسهيلاً لفرار المحرضين أو الفاعلين أو المتدخلين، أو لوقوعها على أحد الأصول أو الفروع، أو لاقترانها بأعمال التعذيب والشراسة، أو لحصولها على الموظف، أو بسبب الإنتماء الطائفي، أو ثأراً لجناية ارتكبها غير المجنى عليه من طائفته أو من أقربائه أو محازبيه، أو باستعمال المواد المتفجرة، أو بقصد التهرب من جناية أو جنحة أو لإخفاء معالمها.(1)."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المادة 549 / الدستور اللبناني
ويمكن ربط هذه الحركات، بالعولمة عامة، والتحرك الأوروبي خاصة (المغاير لوجهة نظر الولايات المتحدة بهذا الشأن ( ، وقد ظهر ربط هذه التحركات بالدور الأوروبي خاصة، حين نُظمت ندوة في حزيران 2001 في بيروت ليوم واحد، دعت إليها مؤسسة فريدريخ ايبرت الألمانية وحركة حقوق الناس اللبنانية، صرح على أثرها ممثل المؤسسة الألمانية "سمير فرح": "لبنان يتطلّع إلى توقيع معاهدة شراكة مع الاتحاد الأوربي الذي ألغت جميع دوله هذه العقوبة" وقد تزامن هذا مع مؤتمر عقد في الشهر ذاته، في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، دُعي "أول مؤتمر عالمي لمناهضة عقوبة الإعدام" بمعاونة منظمات برلمانية أوروبية ومنظمات دولية (1 ) .
ولا بدّ من بيان بعض الأمور التي تتعلق بمطلب إلغاء عقوبة الإعدام من وجهة نظر إسلامية :
أولا : إنه من المفارقة حقا أن نسمع أصواتا أوروبية يتردد صداها في بلدان عربية تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام معتبرة أنها من أبشع الجرائم وأقساها بحق الإنسانية ، في الوقت الذي نشهد صمتا رسميا أوروبيا على جرائم الإعدام اليومية والإمتهان الصارخ لحقوق الإنسان الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل ، وما تمارسه القوات الإمريكية والبريطانية في العراق من ظلم وتنكيل وتعذيب للعراقيين ، وما تمارسه المنظمات التكفيرية من مجازر بحق الآمنين من الأطفال والنساء والشيوخ في العراق .
ثانيا : إن الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام رأفة بالإنسان وصونا لكرامته وإبقاء على حقه في الحياة هو إنفعال عاطفي أحادي الوجهة، إذ إن التعاطف مع الجاني إنما يكون على حساب الضحية وهدرا لحقوقها وتنازلا عن حقها في الحياة ، فكيف تستقيم الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام للقاتل الذي حرم إنسانا مثله من الحياة وحكم عليه بالموت مع المطالبة بحق الحياة لجميع البشر ؟!
ثالثا : إن التأثر بالممارسة الفعلية لتنفيذ عقوبة الإعدام في بعض الدول التي تعتمد أنظمة وضعية أو حتى تلك الدول التي تدعي الإحتكام للشريعة الإسلامية ، والذي لا يخلو من ظلم وتعسف و إصدار أحكام جائرة بحق الأبرياء ،أو الحكم بالإعدام لأسباب سياسية ،أو لجرائم لا تتناسب مع شدة العقوبة ،أو لإخضاع القوى المعارضة للحكم وغيرها من الأسباب ، كل ذلك لا يضير الشريعة الإسلامية السمحاء التي اعتبرت العقوبة شكلا من أشكال الإنصاف الفردي والإجتماعي، وراعت كما بينّا الكثير من العناوين والضوابط والشروط قبل الحكم بالإعدام وقبل تنفيذه ، والشريعة الإسلامية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدكتور أيمن القادري / إلى المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام / جريدة اللواء 2004
أرادت للمجتمعات البشرية أن تعيش الأمن الإجتماعي وأن تحفظ الحدود بين الناس بحيث لا يعتدي أحد على أحد ولا يستبد إنسان على إنسان مثله فيقتله ظلما ويلغي حقه الطبيعي في الحياة ، ولهذا نرى التشدد في قانون العقوبات الإسلامي الذي لا يهادن الجريمة أبدا وإنما يسعى لإقتلاعها من جذورها من خلال القصاص الذي يوجبه على القاتل والسارق والزاني وغيرهم من المجرمين .
رابعا : إن الهدف من تشديد العقوبة هو خلق حالة الردع والزجر بحيث من يفكر بارتكاب جريمة القتل عليه أن يجعل في حساباته أن النفس بالنفس ، وأن إزهاق روح فلان يقابله إزهاق روحه ، من هنا فإن عقوبة الإعدام من شأنها أن تقلل من جرائم القتل في المجتمعات التي تتبناها في تشريعاتها القانونية وهذا بخلاف المجتمعات التي لا تعتمد هذه العقوبة، بحيث نتسطيع إجراء مقارنة بين معدلات جرائم القتل في البلدان التي تطبق عقوبة الإعدام والبلدان التي لا تطبق هذه العقوبة .
خامسا : إن إدعاء الذين يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام بحجة أن الله هو واهب الحق بالحياة ولا يجوز لأحد سلب هذا الحق يمكن الرد عليه بطريقين :
أ ـ إن صريح الآيات القرآنية خير شاهد على أن الله تعالى أعطى الإذن بقتال وقتل الظالمين والمستكبرين والمعتدين على حياة الناس وحرياتهم وكراماتهم :
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (1) }
{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (2)}
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً(3) }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / آية 191
(2) سورة النساء / آية 89
(3) سورة النساء / آية 91
ب ـ إذا كان سلب الحياة ملكا لله وحده فكيف تؤمن الشعوب بحق الدفاع عن الأوطان والأنفس وكيف تشرع الحروب والمعارك ، ويصنف قتل الأعداء وردهم عن حدود الوطن نصرا ومجدا لا يجاريه شيء ؟ أليس هذا تناقضا مع أبسط القيم والمبادئ التي تؤمن بها الشعوب على امتداد التاريخ الإنساني؟
ثم إذا كان سلب حق الحياة لله وحده ولا يجوز لغير الله تعالى أن يسلب حق إنسان ما في الحياة فالأجدر بمن يطالبون بالغاء عقوبة الإعدام أن يطالبوا بحق الضحية لا أن يتعاطفوا مع الجلاد الذي امتدت يداه على حق غيره في الحياة .
سادسا : يقول دعاة إلغاء عقوبة الإعدام : من الصعب فهم الكيفية التي ساعدت بها عقوبة الإعدام على التئام جرح عائلة المقتول. في حين أنه بوسع الحكومات أن تقدم إلى الضحايا وذويهم الدعم المالي كي يتمكنوا من بناء حياتهم المحطمة !
إن تشريع عقوبة الإعدام في القانون الجنائي الإسلامي لم ينطلق من قاعدة التشفي والإنتقام من القاتل ولم يقصد بإعدام القاتل التئام جرح عائلة المقتول، لأن لا شيء يمكن أن يبلسم جراح الثكل الذي حلت بوالدي الضحية أو يزيل صفة اليتم والشعور بالضعف الذي حلت بأبنائه ، إن الحكمة من قتل القاتل والإقتصاص منه هي في اجتثاث النقمة العارمة والشعور بالغضب عند أهله وأوليائه والذي يدفعهم في كثير من الأحيان إلى طلب الثأر أو الإنتقام حتى ممن ليس له ذنب من أقرباء القاتل ، ولا يخفى أن عقلية الثأر لا زالت موجودة في بعض المجتمعات العربية التي لا زالت تحكمها الروح القبلية والعشائرية ، ثم أن الدعم المالي لذوي الضحايا الذي يتحدث عنه دعاة الإلغاء كبديل عن الإقتصاص العادل من القاتل الجاني لا يمكن فرضه كبديل لأنه لا يمكن للمال أن يعوّض الخسارة الكبرى والألم البالغ الذي حلّ بأولياء المقتول ، ولهذا نجد أنّ مبدأ القبول بالديّة في التشريع الإسلامي إنما كان على نحو التخيير وليس على نحو الإلزام لأن الله تعالى لا يمكن أن يكلّف نفسا بما لا يطاق وكثير من أولياء الدم يعتبرون التعويض المالي سواء كان من الحكومة أو من أولياء القاتل إنما هو صكّ بيع وإقرار ضمني باستيعاب الظلم الذي حلّ بقتيلهم .
* خاتمة :
تنبغي الإشارة في ختام هذا البحث إلى ضرورة التعرّف على الإسلام من خلال تشريعاته وأنظمته وقوانينه التي تكفل الحياة السعيدة الهانئة والآمنة لبني الإنسان والتي يمكن توصيفها بانها تسحب الذرائع التي يتدرع بها مرتكبو الجريمة ـ الذين لا يرفض الإسلام إعادة تاهيلهم وإصلاحهم ودمجهم في المجتمع من جديد ـ ومن خلال منظومة الأخلاق التي أريد لها ان تحكم تواصل الناس فيما بينهم فالمسلم اخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه (1 )، والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2) ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى (3) ، إن الرسالة الإسلامية الخاتمة تؤكد على مفهوم الأنسنة وتعتبره حاكما على كل العلاقات في المجتمع الإسلامي ، فهي تريد للإنسان المسلم أن يعيش سمو إنسانيته في تعاطيه مع اخيه المسلم في كل دوائر العلاقة بينهما ، وإذا عاش الإنسان عمق إنسانيته وصفاء فطرته وتأصّلت في داخله براعم الخير واجتثت نوازع الشر فإن الأمن الإجتماعي سوف يتعزز إلى أبعد الحدود وتصبح الجريمة حالة شاذة ونادرة في المجتمع ، ويتحول قانون العقوبات إلى مادة وقائية تحذيرية لا مساحة لها على أرض الواقع .